وقال ابن عطية : والضمير في ﴿إِلَيْهِ﴾ يحتمل أن يعود إلى الله بتقدير فيكشف ما تدعون فيه إلى الله ؛ انتهى. وهذا ليس بجيد لأن دعا بالنسبة إلى مجيب الدعاء إنما يتعدّى لمفعول به دون حرف جر قال تعالى :﴿ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ ﴿أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ﴾ ومن كلام العرب دعوت الله بمعنى دعوت الله إلا أنه يمكن أن يصحح كلامه بدعوى التضمين ضمن يدعون معنى يلجأون، كأنه قيل فيكشف ما يلجأون فيه بالدّعاء إلى الله لكن التضمين ليس بقياس ولا يضار إليه إلا عند الضرورة، ولا ضرورة عنا تدعو إليه وعلق تعالى الكشف بمشيئته فإن شاء أن يتفضل بالكشف فعل وإن لم يشأ لم يفعل لا يجب عليه شيء. قال الزمخشري : إن شاء إن أراد أن يتفضل عليكم ولم تكن مفسدة ؛ انتهى. وفي قوله : ولم تكن مفسدة دسيسة الاعتزال، وظاهر قوله : وتنسون ما تشركون النسيان حقيقة والذهول والغفلة عن الأصنام لأن الشخص إذا دهمه ما لا طاقة له بدفعه تجرد خاطره من كل شيء إلا من الله الكاشف لذاك الداهم، فيكاد يصير الملجأ إلى التعلق بالله والذهول عن من سواه فلا يذكر غير الله القادر على كشف مادهم. وقال الزمخشري :﴿وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ﴾ وتكرهون آلهتكم وهذا فيه بعد. وقال ابن عطية : تتركونهم وتقدم قوله هذا وسبقه إليه الزجاج فقال : تتركونهم لعلمكم أنهم في الحقيقة لا يضرون ولا ينفعون. وقال النحاس : هو مثل قوله ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ﴾. وقيل : يعرضون إعراض الناسي لليأس من النجاة من قبله، و﴿مَآ﴾ موصولة أي وتنسون الذي تشركون. وقيل :﴿مَآ﴾ مصدرية أي وتنسون إشراككم ومعنى هذه الجمل بل لا ملجأ لكم إلا الله تعالى وأصنامكم مطرحة منسية قاله ابن عطية.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَـاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ﴾ هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم وإن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغة في قسوة القلوب حتى هم إذا أخذوا بالبلايا لا يتذللون لله ولا يسألونه كشفها، وهؤلاء الأمم الذين بعث الله تعالى إليهم الرسل أبلغ انحرافاً وأشد شكيمة وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ خاطبهم تعالى بقوله ﴿قُلْ أَرَءَيْتَكُمْ﴾ الآية. وأخبر أنهم عند الأزمات لا يدعون
١٢٩
لكشفها إلا الله تعالى، وفي الكلام حذف التقدير ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ﴾ فكذبوا فأخذناهم وتقدم تفسير البأساء والضراء والترجي هنا بالنسبة إلى البشر أي لو رأى أحد ما حل بهم لرجا تضرعهم وابتهالهم إلى الله في كشفه، والأخذ الإمساك بقوة وبطش وقهر وهو هنا مجاز عن متابعة العقوبة والملازمة والمعنى لعاقبناهم في الدنيا.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٦
﴿فَلَوْلا إِذْ جَآءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ﴾ ﴿لَوْلا﴾ هنا حرف تحضيض يليها الفعل ظاهراً أو مضمر أو يفصل بينهما بمعمول الفعل من مفعول به وظرف كهذه الآية، فصل بين ﴿لَوْلا﴾ و﴿تَضَرَّعُوا ﴾ بإذ وهي معمولة لتضرعوا، والتخضيض يدل على أنه لم يقع تضرعهم حين جاء البأس فمعناه إظهار معاتبة مذنب غائب وإظهار سوء فعله ليتحسر عليه المخاطب وإسناد المجيء إلى البأس مجاز عن وصوله إليهم والمراد أوائل البأس وعلاماته.
﴿وَلَـاكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ أي صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب لما أراد الله من كفرهم، ووقوع ﴿لَـاكِنِ﴾ هنا حسن لأن المعنى انتفاء التذلل عند مجيء البأس ووجود القسوة الدالة على العتو والتعزز فوقعت ﴿لَـاكِنِ﴾ بين ضدين وهما اللين والقسوة، وكذا إن كانت القسوة عبارة عن الكفر فعبر بالسبب عن المسبب والضراعة عبارة عن الإيمان فعبر بالسبب عن المسبب كانت أيضاً واقعة بين ضدين تقول : قسا قلبه فكفر وآمن فتضرع.
﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يحتمل أن تكون الجملة داخلة تحت الاستدراك ويحتمل أن تكون استئناف إخبار، والظاهر الأول فيكون الحامل على ترك التضرع قسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سبباً في تحسينها لهم.
﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ﴾ أي فلما تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس استدرجناهم بتيسير مطالبهم الدنيوية وعبر عن ذلك بقوله :﴿فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَىْءٍ﴾ إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات.


الصفحة التالية
Icon