الوعيد، والأظهر من نسق الآيات أنه خطاب للكفار وهو مذهب الطبري. وقال أبي وأبو العالية وجماعة : هي خطاب للمؤمنين. قال أبي : هنّ أربع : عذاب قبل يوم القيامة مضت اثنتان قبل وفاة الرسول بخمس وعشرين سنة لبسوا شيعاً وأذيق بعضهم بأس بعض، وثنتان واقعتان لا محالة الخسف والرجم. وقال الحسن : بعضها للكفار بعث العذاب من فوق ومن تحت وسائرها للمؤمنين، انتهى. وحين نزلت استعاذ الرسول صلى الله عليه وسلّم وقال في الثالثة :"هذه أهون أو هذه أيسر" ؛ واحتج بهذا من قال هي للمؤمنين. وقال الطبري : لا يمتنع أن يكون عليه لسلام تعوذ لأمته مما وعد به الكفار وهون الثالثة لأنها في المعنى هي التي دعا فيها فمنع كما في حديث الموطأ وغيره. والظاهر ﴿مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ الحقيقة كالصواعق وكما أمطر على قوم لوط وأصحاب الفيل الحجارة وأرسل على قوم نوح الطوفان، كقوله :﴿فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السَّمَآءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ﴾ وكالزلازل ونبع الماء المهلك وكما خسف بقارون. وقال السدي عن أبي مالك وابن جبير : الرجم والخسف. وقال ابن عباس :﴿مِّن فَوْقِكُمْ﴾ ولاة الجور و﴿مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ سفلة السوء وخدمته. وقيل : حبس المطر والنبات. وقيل :﴿مِّن فَوْقِكُمْ﴾ خذلان السمع والبصر والآذان واللسان و﴿مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ﴾ خذلان الفرح والرجل إلى المعاصي ؛ انتهى، وهذا والذي قبله مجاز بعيد.
﴿أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا﴾ أي يخلطكم فرقاً مختلفين على أهواء شتى كلّ فرقة منكم مشايعة لإمام ومعنى خلطهم انشاب القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال كقول الشاعر :
وكتيبة لبستها بكتيبةحتى إذا التبست نفضت لها يدي فتركتهم تقص الرماح ظهورهمما بين منعفر وآخر مسند
قال ابن عباس ومجاهد : تثبت فيكم الأهواء المختلفة فتصيرون فرقاً. وقيل : المعنى يقوي عدوكم حتى يخالطوكم. وقرأ أبو عبد الله المدني ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾ بضمّ الياء من اللبس استعارة من اللباس فعلى فتح الياء يكون شيعاً حالاً. وقيل : مصدر والعامل فيه ﴿يَلْبِسَكُمْ﴾ من غير لفظه ؛ انتهى. ويحتاج في كونه مصدراً إلى نقل من اللغة وعلى ضم الياء يحتمل أن يكون التقدير أو يلبسكم الفتنة شيعاً ويكون شيعاً حالاً، وحذف المفعول الثاني ويحتمل أن يكون المفعول الثاني شيعاً كان الناس يلبس بعضهم بعضاً كما قال الشاعر :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٣
لبست أناساً فأفنيتهموغادرت بعد أناس أناسا
وهي عبارة عن الخلطة والمعايشة.
﴿وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ﴾ البأس الشدة من قتل وغيره والإذاقة والإنالة والإصابة هي من أقوى حواس الاختبار وكثر استعمالها في كلام العرب وفي القرآن قال تعالى :﴿ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ﴾. وقال الشاعر :
أذقناهم كؤوس الموت صرفاوذاقوا من أسنتنا كؤوسا
وقرأ الأعمش : ونذيق بالنون وهي نون عظمة الواحد وهي التفات فأئدته نسبة ذلك إلى الله على سبيل العظمة والقدرة القاهرة.
﴿انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الايَـاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ هذا استرجاع لهم ولفظة تعجب للنبي صلى الله عليه وسلّم والمعني إنا نسألك في مجيء الآيات أنواعاً رجاء أن يفقهوا ويفهموا عن الله تعالى، لأن في اختلاف الآيات ما يقتضي الفهم إن غربت آية لم تعزب أخرى.
﴿وَكَذَّبَ بِهِا قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ﴾ قال السديّ :﴿بِهِ﴾ عائد على القرآن الذي فيه جاء تصريف الآيات. وقال الزمخشري :﴿بِهِ﴾ راجع إلى العذاب وهو الحق أي لا بد أن ينزل بهم. وقال ابن عطية : ويحتمل أن يعود على الوعيد الذي تضمنته الآية ونحا إليه الطبري. وقيل : يعود على النبي صلى الله عليه وسلّم
١٥١
وهذا لقرب مخاطبته بعد ذلك بالكاف ؛ انتهى. وقرأ ابن أبي عبلة : وكذبت به قومك بالتاء، كما قال : كذبت قوم نوح والظاهر أن قوله :﴿وَهُوَ الْحَقُّ﴾ جملة استئناف لا حال.
﴿قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾ أي لست بقائم عليكم لإكراهكم على التوحيد. وقيل :﴿بِوَكِيلٍ﴾ بمسلط وقيل : لا أقدر على منعكم من التكذيب إجباراً إنما أنا منذر. قال ابن عطية : وهذا كان قبل نزول الجهاد والأمر بالقتال ثم نسخ. وقيل : لا نسخ في هذا إذ هو خبر والنسخ فيه متوجه لأن اللازم من اللفظ لست الآن وليس فيه أنه لا يكون في المستقبل.
﴿لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ﴾ أي لكل أجل شيء ينبأ به يعني من أنبائه بأنهم يعذبون وإبعادهم به وقت استقرار وحصول لا بد منه. وقيل : لكل عمل جزاء وليس هذا بالظاهر. وقال السدي : استقر نبأ القرآن بما كان يعدهم من العذاب يوم بدر. وقال مقاتل : منه في الدنيا يوم بدر وفي الآخرة جهنم. ﴿وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ مبالغة في التهديد والوعيد فيجوز أن يكون تهديد بعذاب الآخرة، ويجوز أن يكون تهديداً بالحرب وأخذهم بالإيمان على سبيل القهر والاستيلاء.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٣