﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِى حَدِيثٍ غَيْرِهِا﴾ هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلّم ويدخل فيه المؤمنون لأن علة النهي وهو سماع الخوض في آيات الله يشمله وإياهم. وقيل : هو خاص بتوحيده لأن قيامه عنهم كان يشق عليهم وفراقه على مغاضبه والمؤمنون عندهم ليسوا كهو. وقيل : خطاب للسامع والذين يخوضون المشركون أو اليهود أو أصحاب الأهواء ثلاثة أقوال، ورأيت هنا بصرية ولذلك تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال محذوفة أي ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا﴾ وهم خائضون فيها أي وإذا رأيتهم ملتبسين بهذه الحالة. وقيل :﴿رَأَيْتُ﴾ علمية لأن الخوض في الآيات ليس مما يدرك بحاسة البصر وهذا فيه بعد لأنه يلزم من ذلك حذف المفعول الثاني من باب علمت فيكون التقدير ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِى ءَايَـاتِنَا﴾ خائضين فيها وحذفه اقتصاراً لا يجوز وحذفه اختصاراً عزيز جداً حتى أن بعض النحويين منعه والخوض في الآيات كناية عن الاستهزاء بها والطعن فيها. وكانت قريش في أنديتها تفعل ذلك ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ أي لا تجالسهم وقم عنهم وليس إعراضاً بالقلب وحده بينه وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم، وقد تقدم من قول المفسرين في هذه الآية أن قوله : وقد نزل عليكم في الكتاب : أن الذي نزل في الكتاب هو قوله :﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ﴾ الآية و﴿حَتَّى يَخُوضُوا ﴾ غاية الإعراض عنهم أي فلا بأس أن تجالسهم والضمير في ﴿غَيْرُهُا ﴾ قال الحوفي عائد إلى الخوض كما قال الشاعر :
إذ نهى السفيه جرى إليهوخالف والسفيه إلى خلاف
أي جرى إلى السفه. وقال أبو البقاء : إنما ذكر الهاء لأنه أعادها على معنى الآيات ولأنها حديث وقول :
﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَـانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾ أي إن شغلك
١٥٢
بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم فلا تقعد معهم بعد الذكرى أي ذكرك النهي. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى أي بعد إن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم ؛ انتهى. وهو خلاف ظاهر الشرط لأنه قد نهي عن القعود معهم قبل ثم عطف على الشرط السابق هذا الشرط فكله مستقبل وما أحسن مجيء الشرط الأول بإذا التي هي للمحقق لأن كونهم يخوضون في الآيات محقق ومجيء الشرط الثاني ب"أن" لأن إن لغير المحقق وجاء ﴿مَعَ الْقَوْمِ الظَّـالِمِينَ﴾ تنبيهاً على علة الخوض في الآيات والطعن فيها وأن سبب ذلك ظلمهم وهو مجاوزة الحد ووضع الأشياء غير مواضعها. قال ابن عطية : وأما شرط ويلزمها النون الثقيلة في الأغلب وقد لا تلزم كما قال الشاعر :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٣
أما يصبك عدو في مناوأة
إلى غير ذلك من الأمثلة ؛ انتهى. وهذه المسألة فيها خلاف، ذهب بعض النحويين إلى أنها إذا زيدت بعد إن ما لزمت نون التوكيد ولا يجوز حذفها إلا ضرورة وذهب بعضهم إلى أنها لا تلزم وإنه يجوز في الكلام وتقييده الثقيلة ليس بجيد بل الصواب النون المؤكدة سواء كانت ثقيلة أم خفيفة وكأنه نظر إلى مواردها في القرآن وكونها لم تجيء فيها بعد أما إلا الثقيلة. وقرأ ابن عامر ﴿يُنسِيَنَّكَ﴾ مشدّداً عداه بالتضعيف وعداه الجمهور بالهمزة. وقال ابن عطية : وقد ذكر القراءتين إلا أن التشديد أكثر مبالغة ؛ انتهى. وليس كما ذكر لا فرق بين تضعيف التعدية والهمزة ومفعول ﴿يُنسِيَنَّكَ﴾ الثاني محذوف تقديره ﴿وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَـانُ﴾ نهينا إياك عن القعود معهم والذكرى مصدر ذكر جاء على فعلى وألفه للتأنيث ولم يجيء مصدر على فعلى غيره.
﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ﴾ ﴿الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ هم المؤمنون والضمير في ﴿حِسَابَهُم﴾ عائد على المستهزئين الخائضين في الآيات. وروي أن المؤمنين قالوا : لما نزلت فلا تقعدوا معهم لا يمكننا طواف ولا عبادة في الحرم فنزلت ﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍ﴾ فأبيح لهم قدر ما يحتاج إليه من التصرف بينهم في العبادة ونحوها، والظاهر أن حكم الرسول موافق لحكم غيره لاندراجه في قوله :﴿وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ أمر هو صلى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم حتى إن عرض نسيان وذكر فلا تقعد معهم. وقيل : للمتقين وهو رأسهم أي ما عليكم من حسابهم من شيء.
﴿وَلَـاكِن ذِكْرَى ﴾ أي ولكن عليكم أن تذكروهم ذكرى إذا سمعتموهم يخوضون بأن تقوموا عنهم وتظهروا كراهة فعلهم وتعظوهم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٤٣


الصفحة التالية
Icon