﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِا إِذْ قَالُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ ﴾ نزلت في اليهود قاله ابن عباس ومحمد بن كعب، أو في مالك بن الصيف اليهودي إذ قال له الرسول :"أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين" ؟ قال : نعم. قال :"فأنت الحبر السمين" فغضب ثم قال : ما أنزل الله على بشر من شيء قاله ابن عباس وابن جبير وعكرمة، أو في فنحاص بن عازورا منهم قاله السدي، أو في اليهود والنصارى قاله قتادة، أو في مشركي العرب قاله مجاهد، وغيره، وبعضهم خصة عنه بمشركي قريش وهي رواية ابن أبي نجيح عنه، وفي رواية ابن كثير عن مجاهد أن من أولها إلى ﴿مِن شَىْءٍ﴾ في مشركي قريش وقوله :﴿أَنزَلَ الْكِتَـابَ﴾ في اليهود ولما ذكر تعالى عن إبراهيم دليل التوحيد وتسفيه، رأى أهل الشرك وذكر تعالى ما منّ به على إبراهيم من جعل النبوة في بنيه وأن نوحاً عليه السلام جدّه الأعلى كأن الله تعالى قد هداه وكان مرسلاً إلى قومه
١٧٦
وأمر تعالى الرسول بالاقتداء بهدى الأنبياء أخذ في تقرير النبوّة والردّ على منكريّ الوحي فقال تعالى :﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ﴾ وأصل القدر معرفة الكمية يقال : قدر الشيء إذا حزره وسبره وأراد أن يعلم مقدار يقدره بالضم قدراً وقدراً ومنه فإن غم عليكم فاقدروا له أي فاطلبوا أن تعرفوه، ثم توسع فيه حتى قيل : لكل من عرف شيئاً هو يقدر قدره ولا يقدر قدره إذا لم يعرفه بصفاته، قال ابن عباس والحسن واختاره الفراء وثعلب والزُّجاج معناه ما عظموا الله حق تعظيمه، وقال أبو عبيدة والأخفش : ما عرفوه حق معرفته، قال الماتريدي : ومن الذي يعظم الله حق عظمته أو يعرفه حق معرفته ؟ قالت الملائكة : ما عبدناك حق عبادتك والرسول صلى الله عليه وسلّم يقول :"لا أحصي ثناءً عليك" وينفصل عن هذا أن يكون المعنى : ما عظموه العظمة التي في وسعهم وفي مقدورهم وما عرفوه كذلك، وقال أبو العالية : واختاره الخليل بن أحمد معناه : ما وصفوه حق صفته فيما وجب له واستحال عليه وجاز، وقال ابن عباس أيضاً : ما آمنوا بالله حق إيمانه وعلموا أن الله على كل شيء قدير، وقال أبو عبيدة أيضاً : ما عبدوه حق عبادته، وقيل : ما أجلُّوه حق إجلاله حكاه ابن أبي الفضل في ريّ الظمآن وهو بمعنى التعظيم، وقال ابن عطية : من توفية القدر فهي عامّة يدخل تحتها من لم يعرف ومن لم يعظم وغير ذلك غير أن تعليله بقولهم :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٦١
﴿أَنزَلَ اللَّه وَلا﴾ يقضي بأنهم جهلوا ولم يعرفوا الله حق معرفته إذ أحالوا عليه بعثة الرسل، وقال الزمخشري : ما عرفوا الله حق معرفته في الرحمة على عباده واللطف بهم حين أنكروا بعثة الرسل والوحي إليهم، وذلك من أعظم رحمته وأجل نعمته ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَـاكَ إِلا رَحْمَةً لِّلْعَـالَمِينَ﴾ أو ما عرفوه حق معرفته في سخطه على الكافرين وشدة بطشه بهم ولم يخافوه حين جسروا على تلك المقالة العظيمة من إنكار النبوّة، والقائلون هم اليهود بدليل قراءة من قرأ ﴿تَجْعَلُونَهُ﴾ بالتاء وكذلك ﴿تُبْدُونَهَا﴾ و﴿تُخْفُونَ﴾ وإنما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى. انتهى، والضمير في ﴿وَمَا قَدَرُوا ﴾ عائد على من أنزلت الآية بسببه على الخلاف السابق ويلزم من قال : إنها في بني إسرائيل أن تكون مدنية ولذا حكى النقاش أنها مدنية، وقرأ الحسن وعيسى الثقفي ﴿مَا قَدَرُوا ﴾ بالتشديد ﴿حَقَّ قَدْرِهِ﴾ بفتح الدال وانتصب ﴿حَقَّ قَدْرِهِ﴾ على المصدر وهو في الأصل وصف أي قدره الحق ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر، والعامل في إذ قدروا وفي كلام ابن عطية ما يشعر أن إذ تعليلاً.