﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـابَ الَّذِى جَآءَ بِهِا مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ﴾ إن كان المنكرون بني إسرائيل فالاحتجاج عليهم واضح لأنهم ملتزمون نزول الكتاب على موسى وإن كانوا العرب فوجه الاحتجاج عليهم أن إنزال الكتاب على موسى أمر مشهور منقول، نقل قوم لم تكن العرب مكذبة لهم وكانوا يقولون : لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم، وقال أبو حامد الغزالي : هذه الآية مبنية على الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وذلك لأن حاصله يرجع إلى أن موسى عليه السلام أنزل عليه شيء واحد من البشر ما أنزل الله عليه شيئاً ينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر، وهذا خلف محال وليست هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة، فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة وهي قولهم :﴿مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَىْءٍ ﴾ فوجب القول بكونها كاذبة فتمت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني من الأشكال المنطقية وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف، انتهى كلامه. وفي الآية دليل على أن النقض يقدح في صحة الكلام وذلك أنه نقض قولهم :﴿أَنزَلَ اللَّه وَلا﴾ بقوله :﴿قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَـابَ﴾ فلو لم
١٧٧
يكن النقض دليلاً على فساد الكلام لما كانت حجة مفيدة لهذا المطلوب، والكتاب هنا التوراة وانتصب نوراً وهدى على الحال والعامل أنزل أو جاء.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٦١
﴿تَجْعَلُونَه قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ التاء قراءة الجمهور في الثلاثة، وظاهره أنه لبني إسرائيل والمعنى :﴿تَجْعَلُونَهُ﴾ ذا ﴿قَرَاطِيسَ﴾، أي أوراقاً وبطائق، ﴿وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ كإخفائهم الآيات الدالة على بعثة الرسول وغير ذلك من الآيات التي أخفوها، وأدرج تعالى تحت الإلزام توبيخهم وإن نعى عليهم سوء حملهم لكتابهم وتحريفهم وإبداء بعض وإخفاء بعض، فقيل : جاء به موسى وهو نور وهدى للناس فغيرتموه وجعلتموه قراطيس وورقات لتستمكنوا مما رمتم من الإبداء والإخفاء، وتتناسق قراءة التاء مع قوله :﴿عَلِمْتُمُ﴾ ومن قال : إن المنكرين العرب أو كفار قريش لم يمكن جعل الخطاب لهم، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال : خلال السؤال والجواب : تجعلونه أنتم يا بني إسرائيل قراطيس ومثل هذا يبعد وقوعه لأن فيه تفكيكاً لنظم الآية وتركيبها، حيث جعل الكلام أولاً خطاباً مع الكفار وآخراً خطاباً مع اليهود وقد أجيب بأن الجميع لما اشتركوا في إنكار نبوة الرسول، جاء بعض الكلام خطاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء على الغيبة في الثلاثة.
﴿وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلا ءَابَآؤُكُمْ﴾ ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل مقصود به الامتنان عليهم وعلى آبائهم، بأن علموا من دين الله وهداياته ما لم يكونوا عالمين به لأن آباءهم كانوا علموا أيضاً وعلم بعضهم وليس كذلك آباء العرب، أو مقصود به ذمهم حيث لم ينتفعوا به لإعراضهم وضلالهم، وقيل : الخطاب للعرب، قاله مجاهد ذكر الله منته عليهم أي علمتم يا معشر العرب من الهدايات والتوحيد والإرشاد إلى الحق ما لم تكونوا عالمين ﴿وَلا ءَابَآؤُكُمْ﴾ وقيل : الخطاب لمن آمن من اليهود، وقيل : لمن آمن من قريش وتفسير ﴿مَّا لَمْ تَعْلَمُوا ﴾ يتخرج على حسب المخاطبين التوراة أو دين الإسلام وشرائعه أو هما أو القرآن، قال الزمخشري : الخطاب لليهود أي علمتم على لسان محمد صلى الله عليه وسلّم مما أوحي إليه ﴿مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ﴾ وأنتم حملة التوراة ولم يعلمه آباؤكم الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وقيل : الخطاب لمن آمن من قريش ﴿لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّآ أُنذِرَ ءَابَآؤُهُمْ﴾ انتهى.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٦١
﴿قُلِ اللَّهُ﴾ أمره بالمبادرة إلى الجواب أي قل الله أنزله فإنهم لا يقدرون أن يناكروك، لأن الكتاب الموصوف بالنور والهدى الآتي به من أيد بالمعجزات بلغت دلالته من الوضوح إلى حيث يجب أن يعترف بأن منزله هو الله سواء أقرّ الخصم بها أم لم يقر، ونظيره :﴿قُلْ أَىُّ شَىْءٍ أَكْبَرُ شَهَـادَةًا قُلِ اللَّهُ﴾. قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون المعنى فإن جهلوا أو تحيروا أو سألوا ونحو هذا فقل الله انتهى، ولا يحتاج إلى هذا التقدير لأن الكلام مستغن عنه.


الصفحة التالية
Icon