النيات والحيوان وذلك من الأحوال الأرضية استدل أيضاً على ذلك بالأحوال الفلكية لأن قوله فلق الصبح أعظم من فلق الحب والنوى، لأن الأحوال الفلكية أعظم وقعاً في النفوس من الأحوال الأرضية، والسكن فعل بمعنى مفعول أي مسكون إليه وهو من تستأنس به وتطمئن إليه ومنه قيل للنار لأنه يستأنس بها ولذلك يسمونها المؤنسة، ومعنى أن الليل سكن لأن الإنسان يتعب نهاره ويسكن في الليل ولذلك قال تعالى :﴿لِّلْعَـالَمِينَ * فِيهِ﴾. والحسبان جمع حساب كشهاب وشهبان قاله الأخفش أو مصدر حسب الشيء والحساب الاسم قاله يعقوب، قال ابن عباس : يعني بها عدد الأيام والشهور والسنين، وقال قتادة : حسباناً ضياء انتهى. قيل : وتسمى النار حسباناً وفي صحيح البخاري. قال مجاهد : المراد حسبان كحسبان الرحى وهو الدولاب والعود الذي عليه دورانه، وقال تاج القرّاء : حسباناً أي بحساب قال تعالى :﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ والمعنى أنه جعل سيرهما بحساب ومقدار لأن الشمس تقطع البروج كلها في ثلاثمائة وخمسة وستين يوماً وربع يوم وتعود إلى مكانها والقمر يقطعها في ثمانية وعشرين يوماً، وبدورانهما يعرف الناس حساب الأيام والشهور والأعوام، وقيل : يجريان بحساب وعدد لبلوغ نهاية آجالهما، وقال الزمخشري : جعلهما على حساب لأن حساب الأوقات يعلم بدورهما وسيرهما، وقرأ الكوفيون ﴿وَجَعَلَ الَّيْلَ﴾ فعلاً ماضياً لما كان فالق بمعنى المضي حسن عطف ﴿وَجَعَلَ﴾ عليه وانتصب ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ﴾ عطفاً على ﴿فَالِقُ الاصْبَاحِ﴾، وقرأ باقي السبعة ﴿وَجَاعِلُ﴾ باسم الفاعل مضافاً إلى الليل والظاهر أنه اسم فاعل ماض ولا يعمل عند البصريين فانتصاب ﴿سَكَنًا﴾ على إضمار فعل أي يجعله سكناً لا باسم الفاعل هذا مذهب أبي علي فيما انتصب مفعولاً ثانياً بعد اسم فاعل ماض وذهب السيرافي إلى أنه ينتصب باسم الفاعل وإن كان ماضياً لأنه لما وجبت إضافته إلى الأول لم تكن أن يضاف إلى الثاني فعمل فيه النصب وإن كان ماضياً وهذه مسألة تذكر في علم النحو وأما من أجاز إعمال اسم الفاعل الماضي وهو الكسائي وهشام فسكناً منصوب به، وقرأ يعقوب ساكناً، قال الداني : ولا يصح عنه، وقرأ أبو حيوة بجر
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٣
﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ حسباناً عطفاً على الليل سكناً وأما قراءة النصب وهي قراءة الجمهور فعلى قراءة ﴿وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَنًا﴾ ينتصبان على إضمار فعل أي وجعل الشمس والقمر حسباناً، قال الزمخشري : أو يعطفان على محل الليل، (فإن قلت) : كيف يكون لليل محل ؟ والإضافة حقيقة لأن اسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضي ولا تقول زيد ضارب عمراً أمس (قلت) :
١٨٦
ما هو في معنى الماضي وإنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة انتهى، وملخصه أنه ليس اسم فاعل ماضياً فلا يلزم أن يكون عاملاً فيكون للمضاف إليه موضع من الإعراب، وهذا على مذهب البصريين أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وأما قوله إنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة يعني فيكون إذ ذاك عاملاً ويكون للمجرور بعده موضع من الإعراب فيعطف عليه ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ وهذا ليس بصحيح إذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما هو للاستمرار فلا يجوز له أن يعمل ولا لمجروره محل وقد نصوا على ذلك وأنشدوا :
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فليس الكاسب هنا مقيداً بزمان وإذا تقيد بزمان فإما أن يكون ماضياً دون أل فلا يعمل إذ ذاك عند البصريين أو بأل أو حالاً أو مستقبلاً فيجوز إعماله، والإضافة إليه على ما أحكم في علم النحو وفصل وعلى تسليم أن يكون حالاً على الاستمرار في الأزمنة وتعمل فلا يجوز العطف على محل مجروره بل لو كان حالاً أو مستقبلاً لم يجز ذلك على القول الصحيح وهو مذهب سيبويه، فلو قلت : زيد ضارب عمرو الآن أو غداً أو خالداً لم يجز أن تعطف وخالداً. على موضع عمرو وعلى مذهب سيبويه بل تقدره وتضرب خالداً لأن شرط العطف على الموضع مفقود فيه وهو أن يكون الموضع محرزاً لا يتغير، وهذا موضح في علم النحو وقرىء شاذاً ﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ برفعهما على الابتداء والخبر محذوف تقديره مجعولان حسباناً أو محسوبان حسباناً.
﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ أي ذلك الجعل أو ذلك الفلق والجعل أو ذلك إشارة إلى جميع الأخبار من قوله :﴿فَالِقُ الْحَبِّ﴾ إلى آخرها تقدير العزيز الغالب الذي كل شيء من هذه في تسخيره وقهره العليم الذي لا يعزب عنه شيء من هذه الأحوال ولا من غيرها وفي جعل ذلك كله بتقدير دلالة على أنه هو المختص الفاعل المختار لا أن ذلك فيها بالطبع ولا بالخاصية.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٣


الصفحة التالية
Icon