﴿وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِى ظُلُمَـاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ نبه على أعظم فوائد خلقها وهي الهداية للطرق والمسالك والجهات التي تقصد والقبلة إذ حركات الكواكب في الليل يستدل بها على القبلة كما يستدل بحركة الشمس في النهار عليها، والخطاب عام لكل الناس و﴿لِتَهْتَدُوا ﴾ متعلق بجعل مضمرة لأنها بدل من لكم أي جعل ذلك لاهتدائكم وجعل معناها خلق فهي تتعدى إلى واحد، قال ابن عطية : وقد يمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر المفعول الثاني من ﴿لِتَهْتَدُوا ﴾ أي جعل لكم
١٨٧
النجوم هداية انتهى، وهو ضعيف لندور حذف أحد مفعولي باب ظن وأخواتها والظاهر أن الظلمات هنا على ظاهرها وأبعد من قال : يصح أن تكون الظلمات هنا الشدائد في المواضع التي يتفق أن يهتدى فيها بها، وأضاف الظلمات إلى البر والبحر لملابستها لهما أو شبه مشتبهات الطرق بالظلمات وذكر تعالى النجوم في كتابه للزينة والرحم والهداية فما سوى ذلك اختلاق على الله وافتراء.
﴿قَدْ فَصَّلْنَا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أي بينا وقسمنا وخص من يعلم لأنهم الذين ينتفعون بتفصيلها وأما غيرهم فمعرضون عن الآيات وعن الاستدلال بها.
﴿وَهُوَ الَّذِى أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ وهي آدم عليه السلام.
﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ قرأ الجمهور بفتح القاف جعلوه مكاناً أي موضع استقرار وموضع استيداع أو مصدراً أي فاستقرار واستيداع ولا يكون مستقر اسم مفعول لأنه لا يتعدّى فعله فيبنى منه اسم مفعول، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف اسم فاعل وعلى هذه القراءة يكون بفتح الدال اسم مفعول لما ذكر إنشاءهم ذكر انقسامهم إلى مستقر ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ أي فمنكم مستقر ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾، وروى هارون الأعور عن أبي عمرو ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ بكسر الدال اسم فاعل، قال ابن عباس وابن جبير ومجاهد وعطاء والنخعي والضحاك وقتادة والسدّي وابن زيد : مستقر في الرّحم ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ في الصلب، وقال ابن بحر : عكسه قال والمعنى فذكر وأنث عبر عن الذكر بالمستقر لأن النطفة إنما تتولد في صلبه وعبر عن الأنثى بالمستودع لأن رحمها مستودع للنطفة، وقال ابن مسعود : إن المستقر في الرّحم والمستودع في القبر، وروي عن ابن عباس المستقر في الأرض والمستودع في الأصلاب وعنه كلاهما في الرّحم، وعنه المستقر حيث يأوي والمستودع حيث يموت وعنه المستقر من خلق والمستودع من لم يخلق، وقال مجاهد : المستقر في الدّنيا والمستودع عند الله، وقيل : كلاهما في الدّنيا، وقيل : المستقر الجنة والمستودع النار. وقيل : مستقر في الآخرة بعمله ﴿وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ في أصله ينتقل من حال إلى حال ومن وقت إلى وقت إلى انتهاء أجله انتهى، والذي يقتضيه النظر أن الاستقرار والاستيداع حالان يعتوران على الإنسان من الظهر إلى الرحم إلى الدنيا إلى القبر إلى الشحر إلى الجنة أو إلى النار، وفي كل رتبة يحصل له استقرار واستيداع استقرار بالإضافة إلى ما قبلها واستيداع بالإضافة إلى ما بعدها ولفظ الوديعة يقتضي الانتقال.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١٨٣
﴿فَصَّلْنَا الايَـاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ لما كان الاهتداء بالنجوم واضحاً ختمه بقوله :﴿يَعْلَمُونَ﴾ أي من له أدنى إدراك ينتفع بالنظر في النجوم وفائدتها، ولما كان الإنشاء من نفس واحدة والتصريف في أحوال كثيرة يحتاج إلى فكر وتدقيق نظر ختمه بقوله :﴿يَفْقَهُونَ﴾ إذ الفقه هو استعمال فطنة ودقة نظر وفكر فناسب ختم كل جملة بما يناسب ما صدّر به الكلام.
﴿وَهُوَ الَّذِى أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِا نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ﴾ لما ذكر إنعامه تعالى بخلقنا ذكر إنعامه علينا بما يقوم به أودنا ومصالحنا والسماء هنا السحاب، والظاهر أن المعنى بنبات كل شيء ما يسمى نباتاً في اللغة وهو ما ينمو من الحبوب والفواكه والبقول والحشائش والشجر ومعنى ﴿كُلِّ شَىْءٍ ﴾ مما ينبت وأشار إلى أن السبب واحد والمسببات كثيرة كما قال تعالى :﴿يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِى الاكُلِ﴾. وقال الطبري :﴿نَبَاتَ كُلِّ شَىْءٍ﴾ جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك، لأن ذلك كله
١٨٨
يتغذى وينمو بنزول الماء من السماء، وقال الفراء : معناه رزق كل شيء أي ما يصلح غذاءً لكل شيء فيكون كل شيء مخصوصاً بالمتغذي ويكون إضافة النبات إليه إضافة بيانية بالكلية، وعلى الوجهين السابقين تكون الإضافة راجعة في المعنى إلى إضافة ما يشبه الصفة إلى الموصوف إذ يصير المعنى : فأخرجنا به كل شيء منبت وفي قوله :﴿فَأَخْرَجْنَا﴾ التفات من غيبة إلى تكلم بنون العظمة.
﴿فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا﴾ أي من النبات غضاً ناضراً طرياً وفأخرجنا معطوف على ﴿فَأَخْرَجْنَا﴾ وأجاز أبو البقاء أن يكون بدلاً من ﴿فَأَخْرَجْنَا﴾.