﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ أي مما أحله الله لكم ولا تحرموا كفعل الجاهلية وهذا نص في الإجابة وإزالة لما سنه الكفار من البحيرة والسائبة.
﴿وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَـانِ﴾ أي في التحليل والتحريم من عند أنفسكم وتعلقت بها المعتزلة في أن الحرام ليس برزق وتقدّم تفسير ﴿وَلا تَتَّبِعُوا ﴾ إلى آخره في البقرة.
﴿ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍا مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِا قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ﴾ تقدّم تفسير المشركين فيما أحلوا وما حرموا ونسبتهم ذلك إلى الله، فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلّم وكان خطيبهم مالك بن عوف بن أبي الأحوص الجشمي فقال : يا محمد بلغنا أنك تحل أشياء فقال له :"إنكم قد حرمتم أشياء على غير أصل، وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها فمن أين جاء هذا التحريم أمن قبل الذكر أم من قبل الأنثى. فسكت مالك بن عوف وتحير ؛ فلو علل بالذكورة وجب أن يحرم الذكر أو بالأنوثة فكذلك أو باشتمال الرحم وجب أن يحرما لاشتمالها عليهما، فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو ببعض دون بعض فمن أين ؟ وروي أنه قال لمالك :"ما لك لا تتكلم". فقال له مالك : بل تكلم وأسمع منك والزوج ما كان مع آخر من جنسه وهما زوجان قال : وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى فإن كان وحده فهو فرد ويعني باثنين ذكراً وأنثى أي كبشاً ونعجة وتيساً وعنزاً وهذا الاستفهام هو استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، حيث نسبوا ما حرموه إلى الله تعالى وكانوا مرة يحرمون الذكور ومرة الإناث ومرة أولادها ذكوراً أو إناثاً أو مختلطة، فبين تعالى أن هذا التقسيم هو من قبل أنفسهم لا من قبله تعالى وانتصب ﴿ثَمَـانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ على البدل في قول الأكثرين من قوله :﴿حَمُولَةً وَفَرْشًا ﴾ وهو الظاهر. وأجازوا نصبه بـ﴿كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ﴾ وهو قول عليّ بن سليمان وقدره كلوا لحم ثمانية وب(أنشأ) مضمرة قاله الكسائي، وعلى البدل من موضع ما من قوله :﴿مِمَّا رَزَقَكُمُ﴾ وبـ﴿كُلُوا ﴾ مضمرة وعلى أنها حال أي مختلفة متعددة. وقرأ طلحة بن مصرّف والحسن وعيسى بن عمر :﴿مِّنَ الضَّأْنِ﴾ بفتح الهمزة. وقرأ الابنان وأبو عمرو :﴿وَمِنَ الْمَعْزِ﴾ بفتح العين. وقرأ أبي ومن المعزى. وقرأ أبان بن عثمان : اثنان بالرفع على الابتداء والخبر المقدم وتقديم المفعول وتأخير الفعل دل على وقوع تحريمهم الذكور تارة والإناث أخرى، وما اشتملت عليه الرحم أخرى، فأنكر تعالى ذلك عليهم حيث نسبوه إليه تعالى فقال :﴿حَرَّمَ﴾ أي حرم الله أي لم يحرم تعالى شيئاً من ذلك لا ذكورها ولا إناثها ولا مما تحمله أرحام إناثهما، وقدم في التقسيم الفرش على الحمولة لقرب الذكر وهما طريقان للعرب تارة يراعون القرب وتارة يراعون التقديم، ولأنهما أيسر ما يتملكه ويقتنيه الفقير والغني كما قال الشاعر :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٣٤
ألا إن لا تكن إبل فمعزى
٢٣٩
وقدّم الضأن على المعز لغلاء ثمنه وطيب لحمه وعظم الانتفاع بصوفه.
﴿نَبِّـاُونِى بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ أي ﴿إِن كُنتُمْ صَـادِقِينَ﴾ في نسبة ذلك التحريم إلى الله، فأخبروني عن الله بعلم لا بافتراء ولا بتخرص وأنتم لا علم لكم بذلك إذ لم يأتكم بذلك وحي من الله تعالى، فلا يمكن منكم تنبئة تذلك وفصل بهذه الجملة المعترضة بين المتعاطفين على سبيل التقريع لهم والتوبيخ حيث لم يستندوا في تحريمهم إلا إلى الكذب البحت والافتراء.
﴿وَمِنَ الابِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِا قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الانثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الانثَيَيْنِ﴾ انتقل من توبيخهم في نفي علمهم بذلك إلى توبيخهم في نفي شهادتهم ذلك وقت توصية الله إياهم بذلك، لأن مدرك الأشياء المعقول والمحسوس فإذا انتفيا فكيف يحكم بتحليل أو بتحريم ؟ وكيفية انتفاء الشهادة منهم واضحة وكيفية انتفاء العلم بالعقل إن ذلك مستند إلى الوحي وكانوا لا يصدّقون بالرسل، ومع انتفاء هذين كانوا يقولون : إن الله حرم كذا افتراء عليه. قال الزمخشري : فتهكم بهم في قوله :﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ﴾ على معنى أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل ؛ انتهى. وقدم الإبل على البقر لأنها أغلى ثمناً وأغنى نفعاً في الرحلة، وحمل الأثقال عليها وأصبر على الجوع والعطش وأطوع وأكثر انقياداً في الإناخة والإثارة.


الصفحة التالية
Icon