﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ﴾ هذا مندرج تحت عموم الفواحش إذ الأجود أن لا يخص الفواحش بنوع مّا، وإنما جرد منها قتل النفس تعظيماً لهذه الفاحشة واستهوالاً لوقوعها ولأنه لا يتأتى الاستثناء بقوله :﴿إِلا بِالْحَقِّ﴾ إلا من القتل لا من عموم الفواحش، وقوله :﴿الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ﴾ حوالة على سبق العهد في تحريمها فلذلك وصفت بالتي، والنفس المحرمة هي المؤمنة والذمّية والمعاهدة و﴿بِالْحَقِّ﴾ بالسبب الموجب لقتلها كالرّدة والقصاص والزنا بعد الإحصان والمحاربة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٣٤
﴿ذَالِكُمْ وَصَّـاكُم بِهِا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أشار إلى جميع ما تقدّم وفي لفظ ﴿وَصَّـاكُمُ﴾ من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإحسان، ولما كان العقل مناط التكليف قال تعالى :﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ أي فوائد هذا التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والوصاة الأمر المؤكد المقرر. وقال الأعشى :
أجدك لم تسمع وصاة محمدنبي الإله حين أوصى وأشهدا
﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ هذا نهي عن القرب الذي يعم جميع وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة.
﴿إِلا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾ أي بالخصلة التي هي أحسن في حق اليتيم ولم يأت إلا بالتي هي حسنة، بل جاء بأفعل التفضيل مراعاة لمال اليتيم وأنه لا يكفي فيه الحالة الحسنة بل الخصلة الحسنى وأموال الناس ممنوع من قربانها، ونص على ﴿الْيَتِيمَ﴾ لأن الطمع فيه أكثر لضعفه وقلة مراعاته. قال ابن عباس وابن زيد ﴿الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ﴾ التجارة فمن كان من الناظرين له مال يعيش به فالأحسن إذ أثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها، ومن كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه أنفق من ربح نظره. وقيل : الانتفاع بدوابه واستخدام جواريه لئلا يخرج الأولياء بالمخالطة ذكره المروزي. وقيل لا يأكل منه إلا قرضاً وهذا بعيد وأي أحسنية في هذا.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُا﴾ هذه غاية من حيث المعنى لا من حيث هذا التركيب اللفظي، ومعناه احفظوا على اليتيم ماله إلى بلوغ أشده فادفعوه إليه. وبلوغ الأشد هنا لليتيم هو بلوغ الحلم قاله الشعبي وزيد بن أسلم ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك. وحكى ابن عطية عن الشعبي وربيعة ومالك وأبي حنيفة إنه البلوغ مع أنه لا يثبت فسقه وقد نقل في تفسير الأشد أقوال لا يمكن أن تجيء هنا وكأنها نقلت في قوله ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُا﴾ فعن ابن عباس ما بين يماني عشرة إلى ثلاثين وعنه ثلاث وثلاثون، وعن ابن جبير ومقاتل ثماني عشرة وعن السدي ثلاثون وعن الثوري أربع وثلاثون، وعن عكرمة خمس وعشرون وعن عائشة أربعون وعن أبي العالية عقلة واجتماع قوته، وعن بعضهم من خمسة عشر إلى ثلاثين وعن بعضهم ستون سنة
٢٥٢
ذكره البغوي. وأشد جمع شدة أو شد أو شد أو جمع لا واحد له من لفظه أو مفرد لا جمع له أقوال خمسة، اختار ابن الأنباري في آخرين الأخير وليس بمختار لفقدان أفعل في المفردات وضعاً وأشد مشتق من الشدة وهي القوة والجلادة. وقيل : أصله الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع. قال عنترة :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٣٤
عهدي به شد النهار كأنماخضب اللبان ورأسه بالعظلم
﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ أي بالعدل والتسوية. وقيل : القسط هنا أدنى زيادة ليخرج بها عن العهدة بيقين لما روي "إذا وزنتم فأرجحوا".
﴿لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا ﴾ أي إلا ما يسعها ولا تعجز عنه، ولما كانت مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان يجري فيها الحرج ذكر بلوغ الوسع وإن ما وراءه معفو عنه، فالواجب في إيفاء الكيل والميزان هو القدر الممكن وأما التحقيق فغير واجب قال معناه الطبري. وقيل : المعنى لا نكلف ما فيه تلفه وإن جاز كقوله :﴿أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ﴾ فعلى هذا لا يكون راجعاً إلى إيفاء الكيل والميزان، ولذلك قال ابن عطية : يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف فيه.
﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ أي ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة للقائل فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص، ويدخل في ذي القربى نفس القائل ووالداه وأقربوه فهو ينظر إلى قوله :﴿وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ﴾ أو الوالدين والأقربين، وعنى بالقول هنا ما لا يطلع عليه إلا بالقول من أمر وحكم وشهادة زجر ووساطة بين الناس وغير ذلك لكونها منوطة بالقول، وتخصيصه بالحكم أو بالأمر أو بالشهادة أقوال لا دليل عليها على التخصيص.