وخصّ الأيمان والشمائل الحرف الذي يدل على المجاوزة لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العدوّ وإنما يتجاوز إتيانه إلى الجهة التي هي أغلب في ذلك وقدمت الأيمان على الشمائل لأنها الجهة التي هي القوية في ملاقاة العدوّ، وبالأيمان البطش والدفع فالقرن الذي يأتي من جهتها أبسل وأشجع إذ جاء من الجهة التي هي أقوى في الدفع والشمائل جهة ليست في القوة والدفع كالأيمان، وقال ابن عباس شاكرين موحدين وعنه وعن غيره مؤمنين لأنّ ابن آدم لا يشكر نعمة الله إلا بأن يؤمن، وقال مقاتل شاكرين لنعمتك، وقال الحسن : ثابتين على طاعتك ولا يشكرك إلا القليل منهم وهذه الجملة المنفية يحتمل أن تكون داخلة في خبر القسم معطوفة على جوابه ويحتمل أن تكون استئناف إخبار لي مقسماً عليه أخبر أنّ سعايته وإتيانه إيّاهم من جميع الوجوه يفعل ذلك وهل هذا الإخبار منه كان على سبيل التظني لقوله ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ أو على سبيل العلم قولان وسبيل العلم إما رؤيته ذلك في اللوح المحفوظ أو استفادته من قوله ﴿وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ﴾ أو من الملائكة بإخبار الله لهم أو بقولهم ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا﴾ أو بإغواء آدم وذريته أضعف منه أو يكون قوى ابن آدم تسعة عشر قوة وهي خمس حواس ظاهرة وخمس باطنة والشهوة والغضب، وسبع سابقة وهي الجاذبة والممسكة والهاضمة والدّافعة والقاذفة والنامية والمولدة وكلها تدعو إلى عالم الجسم إلى اللذات البدنية، والعقل قوة واحدة تدعو إلى عبادة الله وتلك في أول الخلق والعقل إذ ذاك ضعيف أقوال ستة.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦٤
﴿مَذْمُومًا مَّدْحُورًا﴾ الجمهور على أنّ الضمير عائد على الجنة والخلاف فيه كالخلاف في ﴿فَاهْبِطْ مِنْهَا﴾ وهذه ثلاث أوامر أمر بالهبوط مطلقاً، وأمر بالخروج مخبراً أنه ذو صغار، وأمر بالخروج مقيداً بالذمّ والطرد، وقال قتادة : لعيناً، وقال الكلبي : ملوماً، وقال مجاهد : منفيّاً، وقيل : ممقوتاً و﴿مَذْمُومًا مَّدْحُورًا﴾ مبعداً من رحمة الله أو من الخير أو من الجنة أو من التوفيق أو من خواصّ المؤمنين أقوال متقاربة، وقرأ الزهري وأبو جعفر والأعمش : مذوماً بضم الذال من غير همز فتحتمل هذه القراءة وجهين أحدهما، وهو الأظهر، أن تكون من ذأم المهموز سهل الهمزة وحذفها وألقى حركتها على الذّال والثاني أن يكون من ذام غير المهموز يذيم كباع يبيع فأبدل الواو بياء كما قالوا في مكيل مكول، وانتصب ﴿مَّدْحُورًا﴾ على أنه حال ثانية على من جوّز ذلك أو حال من الضمير في مذؤوماً أو صفة لقوله.
﴿مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ قرأ الجمهور ﴿لِمَنْ﴾ بفتح اللام الابتداء ومن موصولة جواب قسم محذوف بعد من تبعك وذلك القسم المحذوف وجوابه في موضع خبر من الموصولة، وقرأ الجحدري وعصمة عن أبي بكر
٢٧٧
عن عاصم لمن تبعك منهم بكسر اللام واختلفوا في تخريجها، فقال ابن عطية : المعنى لأجل من تبعك منهم ﴿رَبِّكَ لامْلَأَنَّ﴾ انتهى، فظاهر هذا التقدير أنّ اللام تتعلق بلأملأن ويمتنع ذلك على قول الجمهور أن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبله، وقال الزمخشري بمعنى لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله ﴿لامْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ على أنّ ﴿لامْلَأَنَّ﴾ في محل الابتداء ولمن تبعك خبره انتهى فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأنّ قوله ﴿لامْلَأَنَّ﴾ جملة هي جواب قسم محذوف فمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة ومن حيث كونها جواباً للقسم يمتنع أيضاً لأنها إذ ذاك من هذه الحيثية لا موضع لها من الإعراب ومن حيث كونها مبتدأة لها موضع من الإعراب ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع ولا موضع لها بحال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع داخلاً عليها عامل غير داخل وذلك لا يتصور، وقال أبو الفضل عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن الرازي : اللام متعلقة من الذأم والدّحر ومعناه أخرج بهاتين الصفتين لأجل أتباعك ذكر ذلك في كتاب اللوامح في شواذ القراءات ومعنى ﴿مِّنكُمْ﴾ منك وممن تبعك فغلب الخطاب على الغيبة كما تقول أنت وإخوتك أكرمكم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٦٤
﴿أَجْمَعِينَ * وَيَـا ـاَادَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّـالِمِينَ﴾. أي وقلنا يا آدم وتقدّم تفسير هذه الآية في البقرة. إلا أن هنا فكلا من حيث شئتما وفي البقرة وكلا منها رغداً حيث شئتما، قالوا : وجاءت على أحد محاملها وهو أن يكون الثاني بعد الأول وحذف رغداً هنا على سبيل الاختصار وأثبت هناك لأنّ تلك مدنية وهذه مكية فوُفّي المعنى هناك باللفظ.


الصفحة التالية
Icon