﴿لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ﴾ أي بالموعود الذي وعدنا في الدنيا قضوا بأنّ ذلك حقّ قضاء مشاهدة بالحسّ وكانوا في الدنيا يقضون بذلك بالاستدلال، وقال الكرماني : وقع الموعود به على ما سبق به الوعد، وقال الزمخشري فكان لنا لطفاً وتنبيهاً على الاهتداء فاهتدينا يقولون : ذلك سروراً واغتباطاً بما نالوا وتلذّذا بالتكلم به لا تقرباً وتعبداً كما ترى من رزق خيراً في الدنيا يتكلّم بنحو ذلك ولا يتمالك أن يقوله للفرح لا للقربة. ﴿وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يحتمل
٢٩٩
أن يكون النداء من الله وهو أسرّ لقلوبهم وأرفع لقدرهم ويحتمل أن يكون من الملائكة وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي ﴿وَنُودُوا ﴾ بأنه ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾ واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خفّفت ويحتمل أن تكون ﴿ءَانٍ﴾ مفسرة لوجود شرطها وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة وكأنه قيل :﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ﴾. قال ابن عطية ﴿تِلْكُمُ﴾ إشارة إلى غائبة فإما لأنهم كانوا وعدوا بها في الدنيا فالإشارة إلى تلك أي ﴿تِلْكُمُ﴾ هذه ﴿الْجَنَّةِ﴾ وحذفت هذه وإما قبل أن يدخلوها وإما بعد الدخول وهم مجتمعون في موضع منها فكل غائب عن منزله انتهى، وفي كتاب التحرير و﴿تِلْكُمُ﴾ إشارة إلى غائب وإنما قال هنا ﴿تِلْكُمُ﴾ لأنهم وعدوا بها في الدنيا فلأجل الوعد جرى الخطاب بكلمة العهد قوله صلى الله عليه وسلّم للصديق في الاستخبار عن عائشة "كيف تيكم للعهد السابق" انتهى، جوّزوا فيها أن تكون خبراً لتلكم حال كقوله ﴿أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةَ﴾. قال أبو البقاء : حال من ﴿الْجَنَّةِ﴾ والعامل فيها ما في تلك من معنى الإشارة ولا يجوز أن تكون حالاً من تلك للفصل بينهما بالخبر ولكون المبتدأ لا يعمل في الحال انتهى، وفي العامل في الحال في مثل هذا زيد قائماً خلاف في النحو وأن يكون نعتاً وبدلاً الخبر أدغم النحويان وحمزة وهشام الثاء في التاء وأظهرها باقي السبعة ومعنى ﴿الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا﴾ صيرت لكم كالإرث وأبعد من ذهب إلى أنّ المعنى أورثتموها عن آبائكم لأنها كانت منازلهم لو آمنوا فحرموها بكفرهم وبعده إنّ ذلك عامّ في جميع المؤمنين ولم تكن آباؤهم كلهم كفاراً والباء في ﴿بِمَآ﴾ للسبب المجازي والأعمال أمارة من الله ودليل على قوة الرجاء ودخول الجنة إنما هو بمجرد رحمة الله والقسم فيها على قدر العمل ولفظ ﴿أُورِثْتُمُوهَا﴾ مشير إلى الأقسام وليس ذلك واجباً على الله تعالى، وقال الزمخشري :﴿أُورِثْتُمُوهَا﴾ بما كنتم تعملون بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقول المبطلة انتهى، وهذا مذهب المعتزلة، وفي صحيح مسلم لن يدخل الجنة أحد بعمله قالوا :"ولا أنت يا رسول الله قال : ولا أنا إلا أن يتغمّدني الله برحمة منه وفضل".
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٨٥
﴿وَنَادَى أَصْحَـابُ الْجَنَّةِ أَصْحَـابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا ﴾. عبر بالماضي عن المستقبل لتحقّق وقوعه وهذا النداء فيه تقريع وتوبيخ وتوقيف على مآل الفريقين وزيادة في كرب أهل النار بأن شرفوا عليهم وبخلق إدراك أهل النار لذلك النداء في أسماعهم، قال الزمخشري : وإنما قالوا لهم ذلك اعتباطاً بحالهم وشماتة بأهل النار وزيادة في غمّهم وليكون حكايته لطفاً لمن سمعها وكذلك قول المؤذّن بينهم أن لعنة الله على الظالمين وهو ملك يأمره الله تعالى فينادي بينهم يسمع أهل الجنة وأهل النار وأتى في إخبار أهل الجنة ﴿مَّا وَعَدَنَا﴾ بذكر المفعول وفي قصة أهل النار ما وعد ولم يذكر مفعول ﴿وَعْدُ﴾ لأنّ أهل الجنة مستبشرون بحصول موعودهم فذكروا ما وعدهم الله مضافاً إليهم ولم يذكروا حين سألوا أهل الجنة متعلق ﴿وَعْدُ﴾ باسم الخطاب فيقولوا :﴿وَعَدَكُمُ﴾ ليشمل كل موعود من عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة وتكون إجابتهم بنعم تصديقاً لجميع ما وعد الله بوقوعه في الآخرة للصفين ويكون ذلك اعترافاً منهم بحصول موعود المؤمنين ليتحسّروا على ما فاتهم من نعيمهم إذ نعيم أهل الجنة مما يخزيهم ويزيد في عذابهم ويحتمل أن يكون حذف المفعول الذي للخطاب لدلالة ما قبله عليه وتقديره ﴿فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ﴾، وقرأ ابن وثاب والأعمش والكسائي ﴿نِعْمَ﴾ بكسر العين، ويحتمل أن تكون تفسيريّة وأن تكون مصدرية مخففة من أن الثقيلة وإذا ولى المخففة فعل متصرف غير دعاء فصل بينهما بقد في الأجود كقوله :
٣٠٠
﴿أَن قَدْ وَجَدْنَا﴾.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٢٨٥


الصفحة التالية
Icon