ولما نفى عنهم التباس ضلالة ما به دلّ على أنه على الصراط المستقيم فصحّ أن يستدرك كما تقول ما زيد بضالّ ولكنه مهتد فلكن واقعة بين نقيضين لأنّ الإنسان لا يخلو من أحد الشيئين : الضّلال والهدى ولا تجامع ضلالة الرسالة وفي قوله :﴿مِّن رَّبِّ الْعَـالَمِينَ﴾ تنبيه على أنه ربهم لأنهم من جملة العالم أي من ربّكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولاً يدعوكم إلى إفراده بالعبادة و﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾ استئناف على سبيل البيان بكونه رسولاً أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظاً فيه كونه خبراً لضمير متكلم كما تقول أنه رجل آمر معروف فتراعي لفظ أنا ويجوز يأمر بالمعروف فيراعى لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب قال تعالى :﴿بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ﴾ بالتاء ولو قرىء بالياء لكان عربيّاً مراعاة للفظ ﴿قَوْمٌ﴾ لأنه غائب، وقرأ أبو عمرو ﴿أُبَلِّغُكُمْ﴾ هنا في الموضعين وفي الأحقاف بالتخفيف وباقي السبعة بالتشديد والهمزة والتضعيف للتعدية فيه وجمع باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزّجر والوعظ والتبشير والإنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله، قيل : في صحف إدريس وهي ثلاثون صحيفة وفي صحف شيث وهي خمسون صحيفة وتقدم الكلام في نصح وتعديتها، وقال الزمخشري : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنها وقعت للمنصوح له مقصوداً به جانبه لا غير فربّ نصيحة ينتفع بها الناصح بقصد النفعين جميعاً ولا نصيحة أنفع من نصيحة الله تعالى ورسله، وقال الفراء : لا تكاد العرب تقول نصحتك إنما نصحت لك، وقال النابغة :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٤
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا
وفي قوله ﴿مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ إبهام عليهم وهو عامّ ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قطّ بأمه عُذِّبت فتضمّن التهديد والوعيد فيحتمل أن ﴿مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ من صفات الله وقدرته وشدة بطشه على من اتخذ إلهاً معه أو ﴿مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ مما أوحي إلي، قال ابن عطية : ولا بدّ أنّ نوماً عليه السلام وكل نبيّ مبعوث إلى الخلق كانت له معجزة بخرق العادة فمنهم من عرفنا بمعجزته ومنهم من لم يعرف وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولاً
٣٢١
﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى﴾ وهذا مبدأ أمره معهم وهو التبليغ، كما قال : إنْ عليك إلا البلاغ ثم قال ﴿وَأَنصَحُ لَكُمْ﴾ أي أخلص لكم في تبيين الرّشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحده ثم قال وأعلم من الله ﴿مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبّه على مبدأ أمره ومنتهاه معهم. ﴿أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ يتضمّن قولهم ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَـالٍ مُّبِينٍ﴾ استبعادهم واستمحالهم ما أخبرهم به من خوف العذاب عليهم وأنه بعثه الله إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك، وقال أبو عبد الله الرازي سبب استبعادهم إرسال نوح والهمزة للإنكار والتوبيخ أي هذا مما لا يعجب منه إذ له تعالى، التصرّف التام بإرسال من يشاء لمن يشاء، قال الزمخشري : الواو للعطف والمعطوف محذوف كأنه قيل أو كذبتم وعجبتم أن جاءكم انتهى، وهو كلام مخالف لكلام سيبويه والنّحاة لأنّهم يقولون : إنّ الواو لعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكأنّ الأصل وأعجبتم لكنه اعنى بهمزة الاستفهام فقدّمت على حروف العطف لأنّ الاستفهام له صدر الكلام وقد تقدّم الكلام معه في نظير هذه المسألة وقد رجع هو عن هذا إلى قول الجماعة والذكر الوعظ أو الوحي أو المعجز أو كتاب معجز أو البيان أقوال والأولى أن يكون قوله ﴿عَلَى رَجُلٍ﴾ فيه إضمار أي على لسان رجل كما قال ﴿مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ﴾، وقيل :﴿عَلَى ﴾ بمعنى مع، وقيل : لا حذف ولا تضمين في الحرف بل قوله ﴿عَلَى رَجُلٍ﴾ هو على ظاهره لأن ﴿جَآءَكُمْ﴾ بمعنى نزل إليكم كانوا يتعجبون من نبوّة نوح ويقولون ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين يعنون إرسال البشر ﴿لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لانزَلَ مَلَئاِكَةً﴾ وذكر عليه المجيء وهو الإعلام بالمخوف والتحذير من سوء عاقبة الكفر ووجود التقوى منهم ورجاء الرّحمة وكأنها علة مترتبة فجاءكم الذكر للإنذار بالمخوف والإنذار بالمخوف لأجل وجود التقوى منهم ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة لأنّ المترتب على السبب سبب.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٤


الصفحة التالية
Icon