﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَـاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَـكِن لا تُحِبُّونَ النَّـاصِحِينَ﴾ ظاهر العطف بالفاء أنّ هذا التولي كان بعد هلاكهم ومشاهدة ما جرى عليهم فيكون الخطاب على سبيل التفجّع عليهم والتحسّر لكونهم لم يؤمنوا فهلكوا والاغتمام لهم وليسمع ذلك من كان معه من المسلمين فيزدادوا إيماناً وانتفاء عن معصية الله واقتضاء لما جاء به نبيه عن الله ويكون معنى قوله ولكن ﴿لا تُحِبُّونَ النَّـاصِحِينَ﴾ ولكن كنتم لا تحبون الناصحين فتكون حكاية حال ماضية وقد خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهل قليب بدر وروي أنه خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم، وقيل : كان توليه عنهم وقت عقر الناقة وقولهم ﴿ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ﴾ وذلك قبل نزول العذاب وهو الذي يقتضيه ظاهر مخاطبته لهم وقوله ﴿وَلَـاكِن لا تُحِبُّونَ النَّـاصِحِينَ﴾ وهو الذي في قصصهم من أنه رحل عنهم ليلة أن أخذتهم الرّجفة صبحتها، وبعد ظهور أمارات الهلاك التي وعد بها قال الطبري : وقيل لهم تهلك أمة ونبيها فيها، وروي أنه اترحل بمن معه حتى جاء مكة فأقام بها حتى مات ولفظة التولي تقتضي اليأس من خيرهم واليقين في هلاكهم وخطابه هذا كخطابهم نوح وهود عليهما السلام في قولهما ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَـالَـاتِ رَبِّى﴾ وذكر النصح بعد ذلك لكنه لما كان قوله ﴿أَبْلَغْتُكُمْ﴾ ماضياً عطف عليه ماضياً فقال :﴿وَنَصَحْتُ﴾، وقوله :﴿لا تُحِبُّونَ النَّـاصِحِينَ﴾ أي من نصح لك من رسول أو غيره أي ديدنكم ذلك لغلبة شهواتكم على عقولكم. وجاء لفظ ﴿النَّـاصِحِينَ﴾ عامّاً أي أيّ شخص نصح لكم لم تقبلوا في أي شيء نصح لكم وذلك مبالغة في ذمّهم.
وروي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من مائها ولا يستقوا منها فقالوا : يا رسول الله قد طبخنا وعجنّا، فأمرهم أن يطرحوا ذلك الطبيخ والعجين ويهرقوا ذلك الماء وأمرهم أن يستقوا من الماء الذي كانت ترده ناقة صالح وإلى الأخذ بهذا الحديث، أخذ أبو محمد بن حزم في ذهابه إلى أنه لا يجوز الوضوء بماء أرض ثمود إلا إن كان من العين التي كانت تردها الناقة، وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما مرّ بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه :"لا يدخل أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم" وفي الحديث أنه مر بقبر فقال ﴿فَيَقُولُ مَا هَـاذَآ﴾ ؟ قالوا لا قال "هذا قبر أبي رغال الذي هو أبو ثقيف كان من ثمود فأصاب قومه البلاء وهو بالحرم فسلّم فلما خرج من الحرم أصابه فدفن هنا وجعل معه غصن من ذهب" قال فابتدر القوم بأسيافهم فحفروا حتى أخرجوا الغصن.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣١٤
﴿وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِا أَتَأْتُونَ الْفَـاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَـالَمِينَ﴾
٣٣٢
هو لوط بن هارون أخي إبراهيم عليه السلام وناحور وهم بنو تارح بن ناحور وتقدّم رفع نسبه وقوله هم أهل سدوم وسائر القرى المؤتفكة بعثه الله تعالى إليهم، وقال ابن عطية بعثه الله إلى أمّة تسمى سدوم وانتصب ﴿لُوطًا﴾ بإضمار وأرسلنا عطفاً على الأنبياء قبله و﴿إِذْ﴾ معمولة وجوّز الزمخشري وابن عطية : نصبه بواذكر مضمرة زاد الزمخشري أنّ ﴿الْمُرْسَلِينَ * إِذْ﴾ بدل من لوط أي واذكر وقت قال لقومه، وقد تقدم الكلام على كون إذ تكون مفعولاً بها صريحاً لأذكر وأنّ ذلك تصرف فيها والاستفهام هو على جهة الإنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هذا الفعل القبيح و﴿الْفَـاحِشَةُ﴾ هنا إتيان ذكران الآدميين في الادبار ولما كان هذا بالفعل معهوداً قبحه ومركوزاً في العقول فحشه أتى معرّفاً بالألف واللام أن تكون أل فيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش ولبعد العرب عن ذلك البعد التام وذلك بخلاف الزنا فإنه قال فيه :﴿وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى ا إِنَّه كَانَ فَاحِشَةً﴾ فأتى به منكراً أي فاحشة من الفواحش وكان كثير من العرب يفعله ولا يستنكرون من فعله ولا ذكره في أشعارهم والجملة المنفية تدلّ على أنهم هم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وأنهم مبتكروها والمبالغة في ﴿مِّنْ أَحَدٍ﴾ حيث زيدت لتأكيد نفي الجنس وفي الإتيان بعموم العالمين جمعاً.