ولما ذكر أنه رسول من عند الله وأنه لا يقول على الله إلا الحق أخذ يذكر المعجزة والخارق الذي يدلّ على صدق رسالته والخطاب في ﴿جِئْتُكُم﴾ لفرعون وملائه الحاضرين معه ومعنى ﴿بَيِّنَةً﴾ بآية بينة واضحة الدلالة على ما أذكره والبينة قيل : التسع الآيات المذكورة في قوله ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ﴾، قال بعض العلماء وسياق الآية يقتضي أن البينة هي العصا واليد البيضاء بدليل ما بعده من قوله ﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ﴾، وقال ابن عباس والأكثرون هي العصا وفي قوله ﴿مِّن رَّبِّكُمْ﴾ تعريض أن فرعون ليس ربّاً لهم بل ربهم هو الذي جاء موسى بالبينة من عنده ﴿فَأَرْسِلْ﴾ أي فخل والإرسال ضد الإمساك ﴿مَعِىَ بَنِى إِسْرَا ءِيلَ﴾ أي حتى يذهبوا إلى أوطانهم ومولد آبائهم الأرض المقدسة وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرض الأسباط غلب فرعون على نسلهم واستعبدهم في الأعمال الشاقة وكانوا يؤدّون إليه الجزاء فاستنقذهم الله بموسى عليه السلام وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخل فيه موسى أربعمائة عام والظاهر أن موسى لم يطلب من فرعون في هذه الآية إلا إرسال بني إسرائيل معه وفي غير هذه الآية دعاؤه إياه إلى الإقرار بربوبية الله تعالى وتوحيده قال تعالى ﴿فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى ﴾ وكل نبي داع إلى توحيد الله تعالى، وقال تعالى حكاية عن فرعون ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَـابِدُونَ﴾ فهذا ونظائره دليل على أنه طلب منه الإيمان خلافاً لمن قال إنّ موسى لم يدعه إلى الإيمان ولا إلى التزام شرعه وليس بنو إسرائيل من قوم فرعون والقبط ألا ترى أن بقية القبط وهم الأكثر لم يرجع إليهم موسى.
﴿قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِـاَايَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصَّـادِقِينَ﴾
٣٥٦
لما عرض موسى عليه السلام رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهو مجيئه بالبينة والخارق المعجز استدعى فرعون منه خرق العادة الدالّ على الصدق وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختبار وتحويزه ذلك ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرّر في ذهن فرعون أن موسى لا يقدر على الإتيان ببينة والمعنى إن كنت جئت بآية من ربك فاحضرها عندي لتصحّ دعواك ويثبت صدقك.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤١
﴿فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِىَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ﴾ بدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة قالوا منها أنه ضرب بها باب فرعون ففزع من قرعها فشاب رأسه فخضب بالسواد فهو أول من خضب بالسواد وانقلابها ثعباناً وانقلاب خشبة لحماً ودماً قائماً به الحياة من أعظم الإعجاز ويحصل من انقلابها ثعباناً من التهويل ما لا يحصل في غيره وضربه بها الحجر فينفجر عيوناً وضربه بها فتنبت قاله ابن عباس ومحاربته بها اللصوص والسباع القاصدة غنمه واشتعالها في الليل كاشتعال الشمعة وصيرورتها كالرشا لينزح بها الماء من البئر العميقة وتلقفها الحبال والعصيّ التي للسحرة وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإلقاء حقيقة هو في الاجرام ومجاز في المعاني نحو ألقى المسألة.
قال ابن عباس والسدّي : صارت العصا حية عظيمة شعراء فاغرة فاها ما بين لحييها ثمانون ذراعاً، وقيل : أربعون ذكره مكي عن فرقد واضعة أحد لحييها بالأرض والآخر على سور القصر وذكروا من اضطراب فرعون وفزعه وهربه ووعده موسى بالإيمان إن عادت إلى حالها وكثرة من مات من قوم فرعون فزعاً أشياء لم تتعرّض إليها الآية ولا تثبت في حديث صحيح فالله أعلم بها ومعنى ﴿مُّبِينٌ﴾ ظاهر لا تخييل فيه بل هو ثعبان حقيقة، قال ابن عطية ﴿وَإِذَآ﴾ ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرّد من حيث كانت خبراً عن جثة والصحيح الذي عليه شيوخنا أنها ظرف مكان كما قاله المبرد وهو المنسوب إلى سيبويه وقوله من حيث كانت خبراً عن جثة ليست في هذا المكان خبراً عن جثة بل خبر هي قوله ﴿ثُعْبَانٌ﴾ ولو قلت ﴿فَإِذَا هِىَ﴾ لم يكن كلاماً وينبغي أن يحمل كلامه من حيث كانت خبراً عن جثة على مثل خرجت فإذا السبع على تأويل من جعلها ظرف مكان وما ذكره من أن الصحيح الذي عليه الناس أنها ظرف زمان هو مذهب الرّياشي ونسب أيضاً إلى سيبويه ومذهب الكوفيين أن إذا الفجائية حرف لا اسم.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٤١
﴿وَنَزَعَ يَدَه فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّـاظِرِينَ﴾ أي جذب ﴿يَدَهُ﴾ قيل من جيبه وهو الظاهر لقوله ﴿وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ﴾، وقيل من كمّه و﴿لِلنَّـاظِرِينَ﴾ أي للنظار وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض لها للنظار إلا إذا كان بياضها عجيباً خارجاً عن العادة يجتمع الناس إليه كما يجتمع النظّار للعجائب، قال مجاهد :﴿بَيْضَآءَ﴾ كاللبن أو أشدّ بياضاً، وروي أنها كانت تظهر
٣٥٧


الصفحة التالية
Icon