للمعنى الذي عدل إلى قوله ﴿فَتَمَّ مِيقَـاتُ رَبِّهِ﴾ وفلما تجلّى ربه. ﴿قَالَ رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾. قال السدّي وأبو بكر الهذلي : لما كلمه وخصّه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوّف إلى ذلك فسأل ربه أن يريه نفسه. قال الزجاج : شوّقه الكلام فعيل صبره فحمله على سؤال الرؤية، وقال الرّبيع : لم يعهد إليه في الرؤية فظن أن السؤال في هذا الوقت جائز، وقال السدي : غار الشيطان في الأرض فخرج بين يديه فقال إنما يكلمك شيطان فسأل الرؤية ولو لم تجز الرؤية ما سألها ؟ قال ابن عطية : ورؤية الله عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلاً لأنه من حيث هو موجود تصحّ رؤيته وقررت الشريعة رؤية الله في الآخرة ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر الشرع فموسى عليه السلام لم يسأل محالاً وإنما سأل جائزاً وقوله ﴿لَن تَرَانِى وَلَـاكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ الآية ليس بجواب من سأل محالاً وقد قال تعالى لنوح عليه السلام :﴿فَلا تَسْـاَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِا عِلْمٌا إِنِّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَـاهِلِينَ﴾ فلو سأل موسى محالاً لكان في الجواب زجر ما وتيئيس، وقال الكرماني وغيره : في الكلام محذوف تقديره لن تراني في الدنيا، وقيل لن تقدر أن تراني، وقيل لن تراني بسؤالك، وقيل لن تراني ولكن ستراني حين أتجلى للجبل، قال الزمخشري :(فإن قلت) : كيف طلب موسى عليه السلام ذلك وهو من أعلم الناس بالله تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما لا يجوز وبتعاليه عن الصفة التي هي إدراك ببعض الحواس وذلك إنما يصحّ فيما كان في جهة وما ليس بجسم ولا عرض فمحال أن يكون في جهة ومنع المجبرة إحالته في العقول غير لازم لأنه ليس بأول مكابرتهم وارتكابهم وكيف يكون طالبه وقد قال حين أخذتهم الرّجفة الذين ﴿أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّـاعِقَةُ بِظُلْمِهِم ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنا بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَـاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَالِكَا وَءَاتَيْنَا مُوسَى سُلْطَـانًا مُّبِينًا﴾ إلى قوله ﴿تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ﴾ فتبرأ من فعلهم ودعاهم سفهاء وضلالاً، (قلت) : ما كان طلبه الرؤية إلا ليسكت هؤلاء الذين دعاهم سفهاء وضلالاً وتبرأ من فعلهم وليلقمهم الحجة وذلك أنهم حين طلبوا الرؤية أنكر عليهم وأعلمهم الخطأ ونبّههم على الحق فلجّوا وتمادوا في لجاجهم وقالوا لا بدّ ولن نؤمن لك حتى نراه فأراد أن يسمعوا النص من عند الله باستحالة ذلك وهو قوله لن تراني ليتيقنوا وينزاح عنهم ما كان داخلهم من الشبهة فلذلك قال
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٩
﴿رَبِّ أَرِنِى أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ (فإن قلت) : فهلا قال أرهم ينظرون إليك (قلت) : لأنّ الله سبحانه إنما كلم موسى وهم يسمعون فلما سمعوا كلام رب العزة أرادوا أن يرى موسى ذاته فيبصروه معه كما أسمعه كلامه فسمعوه معه إرادة مبنية على قياس فاسد فلذلك قال موسى أرني ﴿أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ ولأنه إذا زجر عما طلب وأنكر عليه مع نبوته واختصاصه وزلفته عند الله وقيل له لن يكون ذلك كان غيره أولى بالإنكار ولأن الرسول إمام أمته فكان ما يخاطب به أو يخاطب راجعاً إليهم وقوله أنظر إليك وما فيه من معنى المقابلة التي هي محض التشبيه والتجسيم دليل على أنه ترجمة على مقترحهم وحكاية لقولهم وجلّ صاحب الجمل أن يجعل الله منظوراً إليه مقابلاً بحاسة النظر فكيف بمن هو أعرق في معرفة الله من واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد والنظام وأبي الهذيل والشيخين وجميع المسلمين، وثاني مفعول أرني محذوف أي ﴿أَرِنِى ﴾ نفسك اجعلني متمكناً من رؤيتك بأن تتجلى لي فأنظر إليك انتهى. ﴿قَالَ لَن تَرَانِى﴾. قال ابن عطية نصّ على منعه الرؤية في الدنيا ولن تنفي المستقبل فلو بقينا على هذا النفي بمجرّده لتضمن أنّ موسى لا يراه أبداً ولا في الآخرة لكن ورد من جهة أخرى الحديث المتواتر أن أهل الإيمان يرون الله تعالى يوم القيامة فموسى عليه السلام أحرى برؤيته، قال الزمخشري :(فإن قلت) : ما معنى ﴿لَنْ﴾، (قلت) : تأكيد النفي الذي تعطيه لا وذلك أن لا تنفي المستقبل تقول لا أفعل غداً فإذا أكدت نفيها قلت لن أفعل غداً والمعنى أن فعله
٣٨٢
ينافي حال كقوله ﴿لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُا﴾ وقوله ﴿لا تُدْرِكُهُ الابْصَـارُ﴾ نفي للرؤية فيما يستقبل ولن تراني تأكيد وبيان (فإن قلت) : كيف قال لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ لقوله ﴿أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾، (قلت) : لما قال ﴿أَرِنِى ﴾ بمعنى اجعلني متمكناً من الرؤية التي هي الإدراك علم أنّ الطلبة هي الرؤية لا النظر الذي لا إدراك معه فقيل لن تراني ولم يقل لن تنظر إليّ.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٧٩


الصفحة التالية
Icon