﴿فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّه لِلْجَبَلِ جَعَلَه دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ﴾ ترتب على التجلي أمران أحدهما تفتت الجبل وتفرّق أجزائه، والثاني خرور موسى مغشياً عليه. قاله ابن زيد وجماعة المفسرين، وقال السدّي ميتاً ويبعده لفظه أفاق والتجلّي بمعنى الظّهور الجسماني مستحيل على الله تعالى، قال ابن عباس وقوم لما وقع نوره عليه تدكدك، وقال المبرد : المعنى ظهر للجبل من ملكوت الله ما يدكدك به، وقيل ظهر جزء من العرش للجبل فتصرّع من هيبته، وقيل : ظهر أمره تعالى، وقيل :﴿تَجَلَّى ﴾ لأهل الجبل يريد موسى والسبعين الذين معه، وقال الضحاك : أظهر الله من نور الحجب مثل منخر الثور، وقال عبد الله بن سلام : وكعب الأحبار ما تجلى من عظمة الله للجبل إلا مثل سم الخياط، وقال الزمخشري : فلما ظهر له اقتداره وتصدّى له أمره وإرادته انتهى، وقال المتأولون المتكلمون كالقاضي أبي بكر بن الطيب وغيره : إن الله خلق للجبل حياة وحسًّا وإدراكاً يرى به ثم تجل له أي ظهر وبدا فاندك الجبل لشدة المطلع فلما رأى موسى ما بالجبل صعق وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، والظاهر نسبة التجلي إليه تعالى على ما يليق به من غير انتقال ولا وصف يدلّ على الجسمية، قال ابن عباس صار تراباً. وقال مقاتل قطعاً متفرقة، وقيل صار ستة أجبل ثلاثة بالمدينة أحد وورقان ورضوى، وثلاثة بمكة ثور وثبير وحرا، رواه أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقيل ذهب أعلاه وبقي أسفله، وقيل صار غباراً تذروه الرياح، وقال سفيان : روى أنه انساح في الأرض وأفضى إلى البحر الذي تحت الأرضين، قال ابن الكلبي : فهو يهوي فيه إلى يوم القيامة، وقال الجمهور ﴿دَكًّا﴾ أي مدكوكاً أو ذا دك وقرأ حمزة والكسائي دكاء على وزن حمراء والدكاء الناقة التي لا سنام لها والمعنى جعله أرضاً دكاء تشبيهاً بالناقة الدكاء، وقال الربيع بن خيثم : ابسط يدك دكاء أي مدّها مستوية، وقال الزمخشري والدكاء اسم للرابية الناشرة من الأرض كالدكة انتهى، وهذا يناسب قول من قال إنه لم
٣٨٤
يذهب بجملته وإنما ذهب أعلاه وبقي أكثر، وقرأ يحيى بن وثاب ﴿دَكًّا﴾ أي قطعاً جمع دكاء نحو غز جمع غزاء، وانتصب على أنه مفعول ثان لجعله ويضعف قول الأخفش إن نصبه من باب قعدت جلوساً حال مقارنة، ويقال صعقة فصعق وهو من الأفعال التي تعذّب بالحركة نحو شتر الله عينه فشترت، والظاهر أن موسى والجبل لم يطيقا رؤية الله تعالى حين تجلى فلذلك اندكّ الجبل وصعق موسى عليه السلام، وحكى عياض بن موسى عن القاضي أبي بكر بن الطيّب : أن موسى اليه السلام رأى الله فلذلك خرّ صعقاً وأن الجبل رأى ربه فلذلك صار دكًّا بإدراك كلفة الله له وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال إن الله تعالى قسم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله عليه وسلّم فكلم موسى مرتين ورآه محمد صلى الله عليه وسلّم مرتين وذكر المفسرون من رؤيته ملائكة السموات السبع وحملة العرش وهيئاتهم وإعدادهم ما الله أعلم بصحته.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٣٨٣
﴿صَعِقًا فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَـانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ﴾. أي من مسألة الرؤية في الدنيا قاله مجاهد أو ومن سؤالها قبل الاستئدان أو عن صغائري حكاه الكرماني، أو قال ذاك على سبيل الإنابة إلى الله تعالى والرجوع إليه عند ظهور الآيات على ما جرت به عادة المؤمن عند رؤية العظائم وليست توبة عن شيء معين أشار إليه ابن عطية، وقال الزمخشري ﴿قَالَ سُبْحَـانَكَ﴾ أنزّهك عن ما لا يجوز عليك من الرؤية وغيرها ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾ من طلب الرؤية، (فإن قلت) : فإن كان طلب الرؤية للغرض الذي ذكرته فمم تاب، (قلت) : عن إجرائه تلك المقالة العظيمة وإن كان لغرض صحيح على لسانه من غير إذن فيه من الله تعالى فانظر إلى إعظام الله تعالى أمر الرؤية في هذه الآية وكيف أرجف الجبل بطالبيها وجعله دكًّا وكيف أصعقهم ولم يخل كليمه من نفيان ذلك مبالغة في إعظام الأمر وكيف سبّح ربه ملتجئاً إليه وتاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه وقال ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الْجِنِّ أَنَا ءَاتِيكَ بِهِا قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَا وَإِنِّى عَلَيْهِ لَقَوِىٌّ أَمِينٌ﴾، ثم تعجب من المتسمين بالإسلام بالمتسمين بأهل السنة والجماعة كيف اتخذوا هذه العظيمة مذهباً
٣٨٥
ولا يغرّنك تستّرهم بالبلكفة فإنه من منصوبات أشياخهم والقول ما قاله بعض العدلية فيهم :
لجماعة سموا هواهم سنةوجماعة حمر لعمري مؤكفه
قد شبّهوه بخلقه وتخوّفواشنع الورى فتستّروا بالبلكفه
وهو تفسير على طريقة المعتزلة وسبّ لأهل السنة والجماعة على عادته وقد نظم بعض علماء السنة على وزن هذين البيتين وبحرهما أنشدنا الأستاذ العلامة أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير بغرناطة إجازة إن لم يكن سماعاً ونقلته من خطّه، قال أنشدنا القاضي الأديب العالم أبو الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني بقراءتي عليه عن أخيه القاضي أبي بكر من نظمه :