﴿ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُا ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ ﴿قَضَى ﴾ إن كانت هنا بمعنى قدر وكتب، كانت ﴿ثُمَّ﴾ هنا للترتيب في الذكر لا في الزمان لأن ذلك سابق على خلقنا، إذ هي صفة ذات وإن كانت بمعنى أظهر، كانت للترتيب الزماني علي أصل وضعها، لأن ذلك متأخر عن خلقنا فهي صفة فعل والظاهر من تنكير الأجلين أنه تعالى أبهم أمرهما. وقال الحسن ومجاهد وعكرمة وخصيف وقتادة : الأول أجل الدنيا من وقت الخلق إلى الموت، والثاني أجل الآخرة لأن الحياة في الآخرة لا انقضاء لها، ولا يعلم كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى، وروي عن ابن عباس أن الأول هو وفاته بالنوم والثاني بالموت. وقال أيضاً : الأول أجل الدنيا والثاني الآخرة. وقال مجاهد أيضاً : الأول الآخرة. والثاني الدنيا. وقال ابن زيد : الأول هو في وقت أخذ الميثاق على بني آدم حين استخرجهم من ظهر آدم، والمسمى في هذه الحياة الدنيا. وقال أبو مسلم : الأول أجل الماضين، والثاني أجل الباقين، ووصفه بأنه مسمى عنده لأنه تعالى مختص به بخلاف الماضين، فإنهم لما ماتوا علمت آجالهم. وقيل : الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ. وقيل : الأول مقدار ما انقضى من عمر كل إنسان، والثاني مقدار ما بقي. وقيل : الأول أجل الأمم السالفة، والثاني أجل هذه الأمة. وقيل : الأول ما علمناه أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلّم
٧٠
والثاني من الآخرة، وقيل : الأول ما عرف الناس من آجال الأهلة والسنين والكوائن، والثاني قيام الساعة. وقيل : الأول من أوقات الأهلة وما أشبهها، والثاني موت الإنسان. وقال ابن عباس ومجاهد أيضاً ﴿قَضَى أَجَلا ﴾ بانقضاء الدنيا والثاني لابتداء الآخرة. وروي عن ابن عباس أنه قال : لكل أحد أجلان، فإن كان تقياً وصولاً للرحم زيد له من أجل البعث في أجل العمر، وإن كان بالعكس نقص من أجل العمر وزيد في أجل البعث. وقال أبو عبد الله الرازي : لكل إنسان أجلان الطبيعي والاخترامي. فالطبيعي : هو الذي لو بقي ذلك المزاج مصوناً عن العوارض الخارجة لانتهت مدة بقائه إلى الأوقات الفلكية. والاخترامي : هو الذي يحصل بسبب الأسباب الخارجية كالحرق والغرق ولدغ الحشرات، وغيرها من الأمور المنفصلة، انتهى. وهذا قول المعتزلة وهو نقله عنهم وقال : هذا قول حكماء الإسلام، انتهى ومعنى ﴿مُّسَمًّى عِندَهُا﴾ معلوم عنده أو مذكور في اللوح المحفوظ، وعنده مجاز عن علمه ولا يراد به المكان.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥
وقال الزمخشري :(فإن قلت) : المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفاً وجب تقديمه فلم جاز تقديمه في قوله :﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُا﴾.
(قلت) : لأنه تخصيص بالصفة فقارب المعرفة، كقوله :﴿وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ﴾ انتهى. وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة لكونها وصفت لا يتعين هنا أن يكون هو المسوغ، لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة، أن يكون الموضع موضع تفصيل نحو قوله :
إذا ما بكى من خلفها انحرفت لهبشق وشق عندنا لم يحول
وقد سبق كلامنا على هذا البيت وبينا أنه لا يجوز أن يكون عندنا في موضع الصفة، بل يتعين أن يكون في موضع الخبر.
وقال الزمخشري :(فإن قلت) : الكلام السائر أن يقال : عندي ثوب جيد ولي عبد كيس وما أشبه ذلك.
(قلت) : أوجبه أن المعنى وأي ﴿أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ﴾ تعظيماً لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم ؛ انتهى. وهذا لا يجوز لأنه إذا كان التقدير وأي ﴿أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ﴾ كانت أي صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أي ﴿أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ﴾ ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أياً ولا حذف موصوفها وإبقاؤها، فلو قلت مررت بأي رجل تريد برجل أيّ رجل لم يجز، معناه تشكون أو تجادلون جدال الشاكين، والتماري المجادلة على مذهب الشك قاله بعض المفسرين. والكلام في ﴿تَتَّقُونَ * ثُمَّ﴾ هنا كالكلام فيها في قوله ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ والذي يظهر لي أن قوله تعالى :﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ﴾ على جهة الخطاب، هو التفات من الغائب الذي هو قوله ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ وإن كان الخلق وقضاء الأجل ليس مختصاً بالكفار إذ اشترك فيه المؤمن والكافر، لكنه قصد به الكافر تنبيهاً له على أصل خلقه وقضاء الله تعالى عليه وقدرته، وإنما قلت إنه من باب الالتفات لأن قوله ﴿ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ﴾ لا يمكن أن يندرج في هذا الخطاب من اصطفاه الله بالنبوة والإيمان.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥
﴿وَهُوَ اللَّهُ فِى السَّمَـاوَاتِ وَفِى الارْضِا يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار، ذكر ما يدل
٧١


الصفحة التالية
Icon