جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥
﴿فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ﴾ ﴿الْحَقِّ﴾ القرآن أو الإسلام أو محمد صلى الله عليه وسلّم أو انشقاق القمر أو الوعد أو الوعيد، أقوال والذي يظهر أنه الآية التي تأتيهم وكأنه قيل :﴿فَقَدْ كَذَّبُوا ﴾ بالآية التي تأتيهم وهي ﴿الْحَقِّ﴾ فأقام الظاهر مقام المضمر، لما في ذلك من وصفه بالحق وحقيقته كونه من آيات الله تعالى، وظاهر قوله ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا ﴾ أن الفاء للتعقيب وأن إعراضهم عن الآية أعقبة التكذيب. وقال الزمخشري :﴿فَقَدْ كَذَّبُوا ﴾ مردود على كلام محذوف كأنه قيل : إن كانوا معرضين عن الآيات. ﴿فَقَدْ كَذَّبُوا ﴾ بما هو أعظم آية وأكبرها وهو الحق، لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه ؛ انتهى. ولا ضرورة تدعو إلى شرط محذوف إذ الكلام منتظم بدون هذا التقدير.
﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنابَـا ؤُا مَا كَانُوا بِهِ﴾ هذا يدل على أنهم وقع منهم الاستهزاء،
٧٤
فيكون في الكلام معطوف محذوف دل عليه آخر الآية وتقديره واستهزؤوا به، ﴿جَآءَهُم فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ﴾ وهذه رتب ثلاث صدرت من هؤلاء الكفار، الإعراض عن تأمل الدلائل ثم أعقب الإعراض التكذيب، وهو أزيد من الإعراض إذ المعرض قد يكون غافلاً عن الشيء ثم أعقب التكذيب الاستهزاء، وهو أزيد من التكذيب إذ المكذب قد لا يبلغ إلى حدّ الاستهزاء وهذه هي المبالغة في الإنكار، والنبأ الخبر الذي يعظم وقعه وفي الكلام حذف مضاف أي :﴿فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ﴾ مضمن ﴿أَنابَآءِ﴾ فقال قوم : المراد ما عذبوا به في الدنيا من القتل والسبي والنهب والإجلاء وغير ذلك، وخصص بعضهم ذلك بيوم بدر. وقيل : هو عذاب الآخرة، وتضمنت هذه الجملة التهديد والزجر والوعيد كما تقول : اصنع ما تشاء فسيأتيك الخبر، وعلق التهديد بالاستهزاء دون الإعراض والتكذيب لتضمنه إياهما، إذ هو الغاية القصوى في إنكار الحق. وقال الزمخشري : وهو القرآن أي أخباره وأحواله بمعنى سيعلمون بأي شيء استهزؤوا وسيظهر لهم أنه لم يكن موضع استهزاء، وذلك عند إرسال العذاب عليهم في الدنيا أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام وعلو كلمته ؛ انتهى. وهو على عادته في الإسهاب وشرح اللفظ والمعنى مما لا يدلان عليه، وجاء هنا تقييد الكذب بالحق والتنفيس بـ﴿سَوْفَ﴾ وفي الشعراء فقد كذبوا فسيأتيهم لأن الأنعام متقدمة في النزول على الشعراء، فاستوفى فيها اللفظ وحذف من الشعراء وهو مراداً حالة على الأول وناسب الحذف الاختصار في حرف التنفيس، فجاء بالسين والظاهر أن ما في قوله :﴿إِلا كَانُوا ﴾ موصولة اسمية بمعنى الذي والضمير في ﴿بِهِ﴾ عائد عليها. وقال ابن عطية : يصح أن تكون مصدرية التقدير ﴿أَنابَآءِ﴾ كونهم مستهزئين فعلى هذا يكون الضمير في ﴿بِهِ﴾ عائد على الحق لا على مذهب الأخفش حيث زعم أن ﴿مَآ﴾ المصدرية اسم لا حرف، ولا ضرورة تدعو إلى كونها مصدرية.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥
﴿أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الارْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَآءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا﴾ لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم، أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة، وحض على الاعتبار بالقرون الماضية و﴿يَرَوْا ﴾ هنا بمعنى يعلموا، لأنهم لم يبصروا هلاك القرون السالفة و﴿كَمْ﴾ في موضع المفعول بـ﴿أَهْلَكْنَآ﴾ و﴿يَرَوْا ﴾ معلقة والجملة في موضع مفعولها، و﴿مِنْ﴾ الأولى لابتداء الغاية و﴿مِنْ﴾ الثانية للتبعيض، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع ووهم الحوفي في جعله ﴿مِنْ﴾ الثانية بدلاً من الأولى وظاهر الإهلاك أنه حقيقة، كما أهلك قوم نوح وعاداً وثمود غيرهم ويحتمل أن يكون معنوياً بالمسح قردة وخنازير، والضمير في ﴿يَرَوْا ﴾ عائد على من سبق من المكذبين المستهزئين و﴿لَكُمْ﴾ خطاب لهم فهو التفات، والمعنى أن القرون المهلكة أعطوا من البسطة في الدنيا والسعة في الأموال ما لم يعط هؤلاء الذين حضوا على الاعتبار بالأمم السالفة وما جرى لهم، وفي هذا الالتفات تعريض بقلة تمكين هؤلاء ونقصهم عن أحوال من سبق، ومع تمكين أولئك في الأرض فقد حل
٧٥