بهم الهلاك، فكيف لا يحل بكم على قلتكم وضيق خطتكم ؟ فالهلاك إليكم أسرع من الهلاك إليهم. وقال ابن عطية : والمخاطبة في ﴿لَكُمْ﴾ هي للمؤمنين ولجميع المعاصرين لهم وسائر الناس كافة، كأنه قال :﴿مَا لَمْ نُمَكِّن﴾ يا أهل هذا العصر لكم ويحتمل أن يقدر معنى القول لهؤلاء الكفرة، كأنه قال ﴿وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِىٍّ إِلا كَانُوا بِهِا يَسْتَهْزِءُونَ﴾ الآية. وإذا أخبرت أنك قلت لو قيل له أو أمرت أن يقال له فلك في فصيح كلام العرب أن تحكي الألفاظ المقولة بعينها، فتجيء بلفظ المخاطبة، ولك أن تأتي بالمعنى في الألفاظ ذكر غائب دون مخاطبة، انتهى. فتقول : قلت لزيد ما أكرمك وقلت لزيد ما أكرمه، والضمير في ﴿مَّكَّنَّـاهُمْ﴾ عائد على
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥
﴿كَمْ﴾ مراعاة لمعناها، لأن معناها جمع والمراد بها الأمم، وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يعود على ﴿قَرْنٍ﴾ وذلك ضعيف لأن ﴿مِّن قَرْنٍ﴾ تمييز ﴿لَكُمْ﴾ فكم هي المحدث عنها بالإهلاك فتكون هي المحدث عنها بالتمكين، فما بعده إذ ﴿مِّن قَرْنٍ﴾ جرى مجرى التبيين ولم يحدث عنه، وأجاز أبو البقاء أن يكون ﴿كَمْ﴾ هنا ظرفاً وأن يكون مصدراً، أي : كم أزمنة أهلكنا ؟ أو كم إهلاكاً أهلكنا ؟ ومفعول ﴿أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم﴾ على زيادة من وهذا الذي أجازه لا يجوز، لأنه لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع بل تدل على المفرد، لو قلت : كم أزماناً ضربت رجلاً أو كم مرة ضربت رجلاً ؟ لم يكن مدلوله مدلول رجال، لأن السؤال إنما هو عن عدد الأزمان أو المرات التي ضرب فيها رجل، ولأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة ﴿مِنْ﴾ لأنها لا تزاد إلا في الاستفهام المحض أو الاستفهام المراد به النفي، والاستفهام هنا ليس محضاً ولا يراد به النفي والظاهر أن قوله ﴿مَّكَّنَّـاهُمْ﴾ جواب لسؤال مقدر كأنه قيل : ما كان من حالهم ؟ فقيل :﴿مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الارْضِ﴾. وقال أبو البقاء :﴿مَّكَّنَّـاهُمْ﴾ في موضع خبر صفة ﴿قَرْنٍ﴾ وجمع على المعنى وما قاله أبو البقاء ممكن، ﴿وَمَآ﴾ في قوله :﴿مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ﴾ جوزوا في إعرابها أن تكون بمعنى الذي ويكون التقدير التمكين، الذي ﴿لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ﴾ فحذف المنعوت وأقيم النعت مقامه، ويكون الضمير العائد على ﴿مَآ﴾ محذوفاً أي ما لم نمكنه لكم وهذا لا يجوز، لأن ﴿مَآ﴾ بمعنى الذي لا يكون نعتاً للمعارف وإن كان مدلولها مدلول الذي، بل لفظ الذي هو الذي يكون نعتاً للمعارف لو قلت ضربت الضرب ما ضرب زيد تريد الذي ضرب زيد لم يجز، فلو قلت : الضرب الذي ضربه زيد جاز وجوزوا أيضاً أن يكون نكرة صفة لمصدر محذوف تقديره تمكيناً لم نمكنه لكم، وهذا أيضاً لا يجوز لأن ﴿مَآ﴾ النكرة الصفة لا يجوز حذف موصوفها، لو قلت : قمت ما أو ضربت ما وأنت تريد قمت قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يجز، وهذان الوجهان أجازهما الحوفي وأجاز أبو البقاء أن يكون
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥
﴿مَآ﴾ مفعولاً به بتمكن على المعنى، لأن المعنى أعطيناهم ما لم نعطكم، وهذا الذي أجازه تضمين والتضمين لا ينقاس، وأجاز أيضاً أن تكون ﴿مَآ﴾ مصدرية والزمان محذوف أي مد ﴿مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ﴾ ويعني مدة انتفاء التمكين لكم، وأجاز أيضاً أن تكون نكرة موصوفة بالجملة المنفية بعدها أي شيئاً لم نمكنه لكم، وحذف العائد من الصفة على الموصوف وهذا أقرب إلى الصواب وتعدى مكن هنا للذوات بنفسه وبحرف الجر، والأكثر تعديته باللام ﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ﴾ ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَه فِى الارْضِ﴾ أو لم نمكن لهم. وقال أبو عبيد ﴿مَّكَّنَّـاهُمْ﴾ ومكنا لهم لغتان فصيحتان، كنصحته ونصحت له والإرسال والإنزال متقاربان في المعنى لأن اشتقاقه من رسل اللبن، وهو ما ينزل من الضرع متتابعاً و﴿السَّمَآءِ﴾ السماء المظلة قالوا : لأن المطر ينزل منها إلى السحاب، ويكون على حذف مضاف أي مطر ﴿السَّمَآءِ﴾ ويكون ﴿مِّدْرَارًا﴾ حالاً من ذلك المضاف المحذوف. وقيل :﴿السَّمَآءِ﴾ المطر وفي الحديث :"في أثر سماء كانت من الليل"، وتقول العرب : ما زلنا نطأ السماء حتى أتيناكم، يريدون المطر وقال الشاعر :
٧٦
إذا نزل السماء بأرض قومرغيناه وإن كانوا غضبانا
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥


الصفحة التالية
Icon