على هذا حال من نفس ﴿فِى السَّمَآءِ﴾. وقيل :﴿السَّمَآءِ﴾ هنا السحاب ويوصف بالمدرار، فمدراراً حال منه يوصف به المذكر والمؤنث وهو للمبالغة في اتصال المطر ودوامة وقت الحاجة، لا إنها ترفع ليلاً ونهاراً فتفسد قاله ابن الأنباري. ولأن هذه الأوصاف إنما ذكرت لتعديد النعم عليهم ومقابلتها بالعصيان، ﴿مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الانْهَـارَ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمْ﴾ تقدّم ذكر كيفية جريان الأنهار من التحت في أوائل البقرة. وقد أعرب من فسر ﴿الانْهَـارَ﴾ هنا بالخيل كما قيل في قوله :﴿وَهَـاذِهِ الانْهَـارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى ﴾ وإذا كان الفرس سريع العدو واسع الخطو وصف بالبحر وبالنهر، والمعنى أنه تعالى مكنهم التمكين البالغ ووسع عليهم الرزق فذكر سببه وهو تتابع الأمطار على قدر حاجاتهم وإمساك الأرض ذلك الماء، حتى صارت الأنهار تجري من تحتهم فكثر الخصب فأذنبوا فأهلكوا بذنوبهم، والظاهر أن الذنوب هنا هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله وآياته، والإهلاك هنا لا يراد به مجرد الإفناء والإماتة بل المراد الإهلاك الناشىء عن الذنوب والأخذ به كقوله تعالى :﴿فَكُلا أَخَذْنَا بِذَنابِهِا فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الارْضَ وَمِنْهُم مَّنْ﴾، لأن الإهلاك بمعنى الإماتة مشترك فيه الصالح والطالح، وفائدة ذكر إنشاء قرن ﴿ءَاخَرِينَ﴾ بعدهم، إظهار القدرة التامّة على إفناء ناس وإنشاء ناس فهو تعالى لا يتعاظمه أن يهلك ﴿قَرْنًا﴾ ويخرب بلاده وينشىء مكانه آخر يعمر بلاده وفيه تعريض للمخاطبين، بإهلاكهم إذا عصوا كما أهلك من قبلهم ووصف قرناً ﴿بِاَاخَرِينَ﴾ وهو جمع حملاً على معنى قرن، وكان الحمل على المعنى أفصح لأنها فاصلة رأس آية.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٦٥
﴿وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَـابًا فِى قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ سبب نزولها اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبيّ صلى الله عليه وسلّم : لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء، ثم تنزل بكتاب فيه من ربّ العزة إلى عبد الله بن أمية يأمرني بتصديقك. وما أراني مع هذا كنت أصدقك. ثم أسلم بعد ذلك وقتل شهيداً بالطائف ولما ذكر تعالى تكذيبهم الحق لما جاءهم ثم وعظهم وذكرهم بإهلاك القرون الماضية بذنوبهم ذكرهم مبالغتهم في التكذيب بأنهم لو رأوا كلاماً مكتوباً ﴿فِى قِرْطَاسٍ﴾ ومع رؤيتهم جسوه بأيديهم، لم تزدهم الرؤية واللمس إلا تكذيباً وادعوا أن ذلك من باب السحر لا من باب المعجز عناداً وتعنتاً وإن كان من له أدنى مسكة من عقل لا ينازع فيما أدركه بالبصر عن قريب ولا بما لمسته يده، وذكر اللمس لأنهم لم يقتصروا على الرّؤية لئلا يقولوا سكرت أبصارنا، ولما كانت المعجزات مرئيات ومسموعات ذكر الملموسات مبالغة في أنهم لا يتوقفون في إنكار هذه الأنواع كلها حتى إن الملموس باليد هو عندهم مثل المرئي بالعين والمسموع بالأذن، وذكر اليد هنا فقيل مبالغة في التأكيد ولأن اليد أقوى في اللمس من غيرها من الأعضاء. وقيل : الناس منقسمون إلى بصراء وأضراء، فذكر الطريق الذي يحصل به العلم للفريقين. وقيل : علقه باللمس باليد لأنه أبعد عن السحر. وقيل : اللمس باليد مقدمة الإبصار ولا يقع مع التزوير. وقيل : اللمس يطلق ويراد به الفحص عن الشيء والكشف عنه، كما قال :﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَآءَ﴾ فذكرت اليد حتى يعلم أنه ليس المراد به ذلك اللمس، وجاء ﴿لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ لأن مثل هذا الغرض يقتضي انقسام الناس إلى مؤمن وكافر، فالمؤمن يراه من أعظم المعجزات والكافر يجعله من باب السحر، ووصف السحر بـ﴿مُّبِينٌ﴾ إما لكونه بيناً في نفسه، وإما لكونه أظهر غيره.
﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ﴾ قال ابن عباس
٧٧


الصفحة التالية
Icon