انتهى. والجامع في الآية بين الجوع والغريّ هو اشتراكهما في الخلو فالجوع خلو الباطن والعريّ خلو الظاهر وبين الظما والضحاء اشتراكهما في الاحتراق، فالظما احتراق الباطن ألا ترى إلى قولهم برد الماء حرارة جوفي والضحاء احتراق الظاهر والجامع في البيت الأول بين الركوب للذة وهي الصيد وتبطن الكاعب اشتراكهما في لذة الاستعلاء والاقتناص والقهر والظفر بمثل هذا الركوب، ألا ترى إلى تسميتهم هن المرأة بالركب هو فعل بمعنى مفعول أي مركوب قال الراجز :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٤
إن لها لركباً ارزباكأنه جبهة ذرى حبا
وفي البيت الثاني بين سبأ الخمر والرجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذل ؟ فشراء الخمر فيه بدل المال والرجوع بعد الانهزام فيه بذل الروح وما أحسن بعقل امرىء القيس في بيتيه، حيث انتقل من الأدنى إلى الأعلى لأن الظفر بجنس الإنسان أعلى وأشرف من الظفر بغير الجنس، ألا ترى أن تعلق النفس بالعشق أكثر من تعلقها بالصيد ولأن بذل الروج أعظم من بذل المال، ومناسبة تقديم مس الضر على مس الخير ظاهرة لاتصاله بما قبله وهو الترهيب الدال عليه ﴿قُلْ إِنِّى أَخَافُ﴾ وما قبله وجاء جواب الأول بالحصر في قوله :﴿فَلا كَاشِفَ لَهُا إِلا هُوَ﴾ مبالغة في الاستقلال بكشفه وجاء جواب الثاني بقوله :﴿فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ﴾ دلالة على قدرته على كل شيء فيندرج فيه المس بخيرأو غيره، ولو قيل : إن الجواب محذوف لدلالة الأول عليه لكان وجهاً حسناً وتقديره فلا موصل له إليك إلا هو والأحسن تقديره، فلا راد له للتصريح بما يشبهه في قوله وإن يردك بخير فلا راد لفضله ثم أتى بعد بما هو شامل للخير والشر، وهو قدرته على كل شيء وفي قوله :﴿فَلا كَاشِفَ لَهُا إِلا هُوَ﴾ حذف تقديره فلا كاشف له عنك إلا هو.
﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِا وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ لما ذكره تعالى انفراده بتصرفه بما يريده من ضر وخير وقدرته على الأشياء ذكر قهره وغلبته، وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم بل يفسرهم ويجبرهم على ما يريده هو تعالى وفوق حقيقة في المكان وأبعد من جعلها هنا زائدة، وأن التقدير وهو القاهر لعباده وأبعد من هذا قول من ذهب إلى أنها هنا
٨٨
حقيقة في المكان، وأنه تعالى حال في الجهة التي فوق العالم إذ يقتضي التجسيم وأما الجمهور فذكروا أن الفوقية هنا مجاز. فقال بعضهم : هو فوقهم بالإيجاد والإعدام. وقال بعضهم : هو على حذف مضاف معناه فوق قهر عباده بوقوع مراده دون مرادهم. وقال الزمخشري : تصوير للقهر والعلو والغلبة والقدرة كقوله :﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَـاهِرُونَ﴾ انتهى. والعرب تستعمل ﴿فَوْقَ﴾ إشارة لعلو المنزلة وشفوفها على غيره من الرتب ومنه قوله :﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ وقوله :﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ وقال النابغة الجعدي :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ٨٤
بلغنا السماء مجداً وجوداً وسؤدداوإنا لنرجو فوق ذلك مظهراً
يريد علو الرتبة والمنزلة. وقال أبو عبد الله الرازي : صفات الكمال محصورة في العلم والقدرة فقوله :﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِا﴾ إشارة إلى كمال القدرة ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾ إشارة إلى كمال العلم أما كونه قاهراً فلأن ما عداه تعالى ممكن الوجود لذاته، والممكن لذاته لا يترجح وجوده على عدمه ولا عدمه على وجوده إلا بترجيحه تعالى وإيجاده، فهو في الحقيقة الذي قهر الممكنات تارة في طرق ترجيح الوجود على العدم وتارة في طرق ترجيح العدم على الوجود، ويدخل فيه كل ما ذكره الله تعالى في قوله :﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَـالِكَ الْمُلْكِ﴾ الآية. والحكيم والمحكم أي أفعاله متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد لا بمعنى العالم، لأن ﴿الْخَبِيرُ﴾ إشارة إلى العلم فيلزم التكرار ؛ انتهى، وفيه بعض اختصار وتلخيص. وقيل :﴿الْحَكِيمُ﴾ العالم و﴿الْخَبِيرُ﴾ أيضاً العالم ذكره تأكيداً و﴿فَوْقَ﴾ منصوب على الظرف إما معمولاً للقاهر أي المستعلي فوق عباده، وإما في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو أخبر عنه بشيئين أحدهما : أنه القاهر الثاني أنه فوق عباده بالرتبة والمنزلة والشرف لا بالجهة، إذ هو الموجد لهم وللجهة غير المفتقر لشيء من مخلوقاته فالفوقية مستعارة للمعنى من فوقية المكان، وحكى المهدوي أنه في موضع نصب على الحال كأنه قال : وهو القاهر غالباً فوق عباده وقاله أبو البقاء، وقدره مستعلياً أو غالباً وأجاز أن يكون فوق عباده في موضع رفع بدلاً من القاهر. قال ابن عطية : ما معناه ورود العباد في التفخيم والكرامة والعبيد في التحقير والاستضعاف والذم، وذكر موارد من ذلك على زعمه وقد تقدم له هذا المعنى مبسوطاً مطولاً ورددنا عليه.


الصفحة التالية
Icon