والذي نقوله : إن التكثير لم يفهم من ﴿قَدْ﴾ وإنما يفهم من سياق الكلام لأنه لا يحصل الفخر والمدح بقتل قرن واحد ولا بالكرم مرّة واحدة، وإنما يحصلان بكثرة وقوع ذلك وعلى تقدير أن قد تكون للتكثير في الفعل وزيادته لا يتصور ذلك، في قوله :﴿قَدْ نَعْلَمُ﴾ لأن علمه تعالى لا يمكن فيه الزيادة والتكثير،
١١٠
وقوله : بمعنى ربما التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته، والمشهور أن ربّ للتقليل لا للتكثير وما الداخلة عليها هي مهيئة لأن يليها الفعل وما المهيئة لا تزيل الكلمة عن مدلولها، ألا ترى أنها في كأنما يقوم زيد ولعلما يخرج بكر لم تزل كأنّ عن التشبيه ولا لعل عن الترجّي. قال بعض أصحابنا : فذكر بما في التقليل والصرف إلى معنى المضيّ يعني إذا دخلت على المضارع قال : هذا ظاهر قول سيبويه، فإن خلت من معنى التقليل خلت غالباً من الصرف إلى معنى المضيّ وتكون حينئذ للتحقيق والتوكيد نحو قوله ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّه لَيَحْزُنُكَ﴾ وقوله ﴿لِمَ تُؤْذُونَنِى وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ﴾ وقول الشاعر :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٠
وقد تدرك الإنسان رحمة ربِّهولو كان تحت الأرض سبعين واديا
وقد تخلو من التقليل وهي صارفة لمعنى المضي نحو قوله :﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ﴾ انتهى. وقال مكي :﴿قَدْ﴾ هنا وشبهه تأتي لتأتي لتأكيد الشيء وإيجابه وتصديقه ونعلم بمعنى علمنا. وقال ابن أبي الفضل في ري الظمآن : كلمة ﴿قَدْ﴾ تأتي للتوقع وتأتي للتقريب من الحال وتأتي للتقليل ؛ انتهى، نحو قولهم : إن الكذوب قد يصدق وإن الجبان قد يشجع والضمير في ﴿أَنَّهُ﴾ ضمير الشأن، والجملة بعده مفسرة له في موضع خبران ولا يقع هنا اسم الفاعل على تقدير رفعه ما بعده على الفاعلية موقع المضارع لما يلزم من وقوع خبر ضمير الشأن مفرداً وذلك لا يجوز عند البصريين، وتقدم الكلام على قراءة من قرأ يحزنك رباعياً وثلاثياً في آخر سورة آل عمران وتوجيه ذلك فاغني عن إعادته هنا والذي يقولون معناه مما ينافي ما أنت عليه. قال الحسن : كانوا يقولون إنه ساحر وشاعر وكاهن ومجنون. وقيل : كانوا يصرحون بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه. وقيل : كانوا ينسبونه إلى الكذب والافتعال. وقيل : كان بعض كفار قريش يقول له : رئي من الجن يخبره بما يخبر به. وقرأ علي ونافع والكسائي بتخفيف ﴿يُكَذِّبُونَكَ﴾. وقرأ باقي السبعة وابن عباس بالتشديد. فقيل : هما بمعنى واحد نحو كثر وأكثر. وقيل : بينهما فرق حكى الكسائي أن العرب تقول : كذبت الرجل إذ نسبت إليه الكذب وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دون أن تنسبه إليه وتقول العرب أيضاً : أكذبت الرجل إذا وجدته كذاباً كما تقول : أحمدت الرجل إذا وجدته محموداً فعلى القول بالفرق يكون معنى التخفيف لا يجدونك كاذباً أو لا ينسبون الكذب إليك، وعلى معنى التشديد يكون إما خبراً محضاً عن عدم تكذيبهم إياه ويكون من نسبة ذلك إلى كلهم على سبيل المجاز والمراد به بعضهم لأنه معلوم قطعاً أن بعضهم كان يكذبه، ويكذب ما جاء به وإما أن يكون نفي التكذيب لانتفاء ما يترتب عليه من المضار فكأنه قيل ﴿لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ تكذيباً يضرك لأنك لست بكاذب فتكذيبهم كلا تكذيب. وقال في المنتخب : لا يراد بقوله :﴿لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ خصوصية تكذيبه هو، بل المعنى أنهم ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقاً فالمعنى ﴿لا يُكَذِّبُونَكَ﴾
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٠
على التعيين بل يكذبون جميع الأننبياء والرسل. وقال قتادة والسدي :﴿لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ بحجة وإنما هو تكذيب عناد وبهت. وقال ناجية بن كعب : لا يقولون إنك كاذب لعلمهم بصدقك ولكن يكذبون ما جئت به. وقال ابن السائب ومقاتل :﴿لا يُكَذِّبُونَكَ﴾ في السر، ولكن يكذبونك في العلانية عداوة. وقال : لا يقدرون على أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم كذبت ذكره الزجاج ورجح قراءة على بالتخفيف بعضهم، ولا ترجيح بين المتواترين. قال الزمخشري : والمعنى أن تكذيبك أمر راجع إلى الله تعالى لأنك رسوله المصدق بالمعجزات فهم لا يكذبونك في الحقيقة وإنما يكذبون الله بجحود آياته فانته عن حزنك لنفسك وإنهم كذبوك وأنت صادق، وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه ونحوه قول
١١١
السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني وفي هذه الطريقة قوله تعالى :﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ وعن ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسمى الأمين فعرفوا أنه لا يكذب في شيء ولكنهم كانوا يجحدون، فكان أبو جهل يقول : ما نكذبك وإنك عندنا لمصدق وإنما نكذب ما جئتنا به ؛ انتهى. وفي الكلام حذف تقديره : فلا تحزن فإنهم لا يكذبونك، وأقيم الظاهر مقام المضمر تنبيهاً على أنّ علة الجحود هي الظلم وهي مجاوزة الحدّ في الاعتداء، أي ولكنهم بآيات الله يجحدون.


الصفحة التالية
Icon