وقال ابن عطية : وهذه الآية تردّ على القدرية المفوّضة الذين يقولون : إن القدرة لا تقتضي أن يؤمن الكافر وأن ما يأتيه الإنسان من جميع أفعاله لا خلق فيه تعالى الله عن قولهم.
وقال الزمخشري :﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ بآية ملجئة، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة ؛ اتهى، وهذا قول المعتزلة.
وقال القاضي : والإلجاء أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه، وحينئذ يمتنعون من فعل شيء غير الإيمان، وهو تعالى إنما ترك فعل هذا الإلجاء لأن ذلك يزيل تكليفهم، فيكون ما وقع منهم كأن لم يقع، وإنما أراد تعالى أن ينتفعوا بما يختارونه من قبل أنفسهم من جهة الوصلة به إلى الثواب، وذلك لا يكون إلا اختياراً، وأجاب أبو عبد الله الرازي بأنه تعالى أراد منهم الإقدام على الإيمان حال كون الداعي إلى الإيمان وإلى الكفر بالسوية، أو حال حصول هذا الرجحان، والأول تكليف ما لا يطاق لأن الأمر بتحصيل الرجحان حال حصول الاستواء تكليف بالجمع بين النقيضين وهو محال، وإن كان الثاني فالطرف الراجح يكون واجب الوقوع، والطرف المرجوح يكون ممتنع الوقوع، وكل هذه الأقسام تنافي ما ذكروه من المكنة والاختيارات، فسقط قولهم بالكلية.
﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـاهِلِينَ﴾ تقدم قول ابن عطية في أن تأسف وتحزن على أمر
١١٥
أراده الله تعالى، وأمضاه، وعلم المصلحة فيه.
وقال أيضاً : و﴿مِنَ الْجَـاهِلِينَ﴾ يحتمل في أن لا تعلم أن الله ﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ ويحتمل في أن تهتم بوجود كفرهم الذي قدره الله وأراده، وتذهب بك نفسك إلى ما لم يقدر الله، انتهى. وضعف الاحتمال الأول بأنّه صلى الله عليه وسلّم مع كمال ذاته وتوفر معلوماته وعظيم اطّلاعه على ما يليق بقدرة الحقّ جلّ جلاله، واستيلائه على جميع مقدوراته، لا ينبغي أن يوصف بأنه جاهل بأنه تعالى لو شاء لجمعهم على الهدى، لأن هذا من قبيل الدين والعقائد، فلا يجوز أن يكون جاهلاً بها، وكأن الزمخشري قد فسر قوله :﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ بأن تأتيهم آية ملجئة، ولكنه لا يفعل لخروجه عن الحكمة فقال في قوله :﴿فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَـاهِلِينَ﴾ من الذين يجهلون ذلك ويرومون ما هو خلافه. وأشار بذلك إلى الإتيان بالآية الملجئة إلى الإيمان وتقدم الكلام في الإلجاء.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٠
وقيل : لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم ويكفر بعضهم، وضعف بأن هذا ليس مما يجهله صلى الله عليه وسلّم.
وقيل لا تكوننّ ممن لا صبر له لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين، وضعف بأنه تعالى قد أمره بالصبر في آيات كثيرة ومع أمر الله له بالصبر وبيان أنه خير يبعد أن يوصف بعد صبره بقلة الصبر.
وقيل : لا يشتد حزنك لأجل كفرهم فتقارب حال الجاهل بأحكام الله وقدره، وقد صرح بهذا في قوله :﴿فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾ وقال قوم : جاز هذا الخطاب لأنه لقربه من الله ومكانته عنده كان ذلك حملاً عليه كما يحمل العاقل على قريبه فوق ما يحمله على الأجانب، خشية عليه من تخصيص الإذلال.
وقال مكي والمهدوي : الخطاب له والمراد به أمته، وتمم هذا القول بأنه كان يحزنه إصرار بعضهم على الكفر وحرمانهم ثمرات الإيمان.
قال ابن عطية : وهذا ضعيف لا يقتضيه اللفظ ؛ انتهى.
وقيل : الرسول معصوم من الجهل والشك بلا خلاف، ولكن العصمة لا تمنع الامتحان بالأمر والنهي، أو لأن ضيق صدره وكثرة حزنه من الجبلات البشرية، وهي لا ترفعها العصمة بدليل :"اللهم إني بشر وإني أغضب كما يغضب البشر" الحديث. وقوله :"إنما أنا بشر فإذا نسيت فذكروني" انتهى.
والذي أختاره أن هذا الخطاب ليس للرسول، وذلك أنه تعالى قال :﴿وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ فهذا إخبار وعقد كلّي أنه لا يقع في الوجوه إلا ما شاء وقوعه، ولا يختص هذا الإخبار بهذا الخطاب بالرسول بل الرسول عالم بمضمون هذا الإخبار، فإنما ذلك للسامع فالخطاب والنهي في ﴿فَلا تَكُونَنَّ﴾ للسامع دون الرسول فكأنه قيل : ولو شاء الله أيها السامع الذي لا يعلم أن ما وقع في الوجود يمشيئة الله جمعهم على الهدى لجمعهم عليه، فلا تكونن أيها السامع من الجاهلين بأن ما شاء الله إيقاعه وقع، وأن الكائنات معذوقة بإرادته.
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٠
١١٦
التضرّع : تَفَعُّل من الضراعة وهي الذلة، يقال : ضرع يضرع ضراعة، قال الشاعر :
جزء : ٤ رقم الصفحة : ١١٦
ليبك يزيدَ ضارع لخصومةومختبطٌ مما تطيح الطوائح
أي ذليل ضعيف. صدف عن الشيء أعرض عنه صدفاً وصدوفاً، وصادفته لقيته عن إعراض عن جهته قال ابن الرقاع :
إذا ذكرن حديثاً قلن أحسنهوهنَّ عن كل سوء يتقى صدف


الصفحة التالية
Icon