وقال قتادة أيضاً : سلف صدق. وقال عطاء : مقام صدق. وقال يمان : إيمان صدق. وقال الحسن أيضاً : ولد صالح قدموه. وقيل : تقديم الله في البعث لهذه الأمة وفي إدخالهم الجنة، كما قال :"نحن الآخرون السابقون يوم القيامة" وقيل : تقدم شرف، ومنه قول العجاج :
ذل بني العوام من آل الحكموتركوا الملك لملك ذي قدم
وقال الزجاج : درجة عالية وعنه منزلة رفيعة. ومنه قول ذي الرمة :
١٢٢
لكم قدم لا ينكر الناس أنهامع الحسب العادي طمت على البحر
وقال الزمخشري : قدم صدق عند ربهم سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً، كما سميت النعمة يداً، لأنها تعطى باليد وباعاً لأن صاحبها يبوع بها فقيل لفلان : قدم في الخير، وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل وأنه من السوابق العظيمة. وقال ابن عطية : والصدق في هذه الآية بمعنى الصلاح، كما تقول : رجل صدق. وعن الأوزاعي : قِدم بكسر القاف تسمية بالمدر، قال : الكافرون. ذهب الطبري إلى أنّ في الكلام حذفاً يدل الظاهر عليه تقديره : فلما أنذر وبشر قال الكافرون كذا وكذا. قال ابن عطية : قال الكافرون : يحتمل أن يكون تفسيراً لقوله : أكان للناس وحينا إلى بشر عجباً قال الكافرون عنه كذا وكذا.
وقرأ الجمهور والعربيان ونافع : لسحر إشارة إلى الوحي، وباقي السبعة، وابن مسعود، وأبو رزين، ومسروق، وابن جبير، ومجاهد، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش، وابن محيصن، وابن كثير، وعيسى بن عمرو بخلاف عنهما لساحر إشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلّم، وفي مصحف أبي ما هذا إلا سحر. وقرأ الأعمش أيضاً : ما هذا إلا ساحر. قال ابن عطية : وقولهم في الإنذار والبشارة سحر إنما هو بسبب أنه فرق كلمتهم، وحال بين القريب وقريبه، فأشبه ذلك ما يفعله الساحر، وظنوه من ذلك الباب. وقال الزمخشري : وهذا دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً. ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحراً ظاهر الفساد، لم يحتج قولهم إلى جواب، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة وخلطتهم له وما كانت قلة علم، ثم أتى به من الوحي المتضمن ما لم يتضمنه كتاب إلهي من قصص الأولين والأخبار بالغيوب والاشتمال على مصالح الدنيا والآخرة، مع الفصاحة والبراعة التي أعجزتهم إلى غير ذلك من المعاني التي تشمنها يقضي بفساد مقالتهم، وقولهم ذلك هو ديدن الكفرة مع أنبيائهم إذ أتوهم بالمعجزات كما قال : فرعون وقومه في موسى عليه السلام :﴿إِنَّ هذا لَسَـاحِرٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿قَالُوا ﴾ وقوم عيسى عليه السلام :﴿كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَـاذَآ إِلا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٢٠
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَـاوَاتِ وَالارْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ تقدم تفسير مثل هذه الجملة في سورة الأعراف وجاءتا عقب ذكر القرآن والتنبيه على المعاد. ففي الأعراف :﴿وَلَقَدْ جِئْنَـاهُم بِكِتَـابٍ فَصَّلْنَـاهُ﴾ وقوله :﴿يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ﴾ وهنا تلك آيات الكتاب. وذكر الإنذار والتبشير وثمرتهما لا تظهر إلا في المعاد. ومناسبة هذه لما قبلها أنّ من كان قادراً على إيجاد هذا الخلق العلوي والسفلي العظيمين وهو ربكم الناظر ف مصالحكم، فلا يتعجب أن يبعث إلى خلقه من يحذر من مخالفته ويبشر على طاعته، إذ ليس خلقهم عبثاً بل على ما اقتضته حكمته وسبقت به إرادته، هذ القادر العظيم قادر على ما دونه بطريق الأولى.
﴿يُدَبِّرُ الامْرَا مَا مِن شَفِيعٍ إِلا مِنا بَعْدِ إِذْنِهِا﴾ : قال مجاهد : أي يقضيه وحده. والتدبير تنزيل الأمور في مراتبها والنظر في أدبارها وعواقبها، والأمر قيل : الخلق كله علويه وسفليه. وقيل : يبعث بالأمر ملائكة، فجبريل للوحي، وميكائيل للقطر، وعزرائيل للقبض، وإسرافيل للصور. وهذه الجملة بيان لعظيم شأنه وملكه. ولما ذكر الإيجاد ذكر ما يكون فيه من الأمور، وأنه لمنفرد به إيجاداً وتدبيراً لا يشركه أحد في ذلك، وأنه لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا بإذنه، إذ هو تعالى أعلم بموضع الحكمة والصواب. وفي هذه دليل على عظم عزته وكبريائه كما قال :﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَئاِكَةُ صَفًّا ﴾ الآية. ولما كان الخطاب عاماً وكان الكفار يقولون عن أصنامهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله، ردّ ذلك تعالى عليهم، وناسب ذكر الشفاعة التي تكون في القيامة بعد ذكر المبدأ ليجمع بين الطرفين : الابتداء
١٢٣
والانتهاء. وقال أبو مسلم الأصبهاني : الشفيع هنا من الشفع الذي يخالف الوتر، فمعنى الآية : أنه أوجد العالم وحده لا شريك يعينه، ولم يحدث شيء في الوجود إلا من بعد أن قال له : كن. وقال أبو البقاء : يدبر الأمر، يجوز أن يكون مستأنفاً وخبراً ثانياً وحالاً.