هذه الأوصاف، فيكون التقدير : كحياة قوم بماء أنزلناه من السماء. قيل : ويقوي هذا قوله : وظن أهلها أنهم قادرون عليها. والسماء إما أن يراد من السحاب، وإما أن يراد من جهة السماء، والظاهر أن النبات اختلط بالماء. ومعنى الاختلاط : تشبثه به، وتلقفه إياه، وقبوله له، لأنه يجري له مجرى الغذاء، فتكون الباء للمصاحبة. وكل مخلطين يصح في كل منهما أن يقال : اختلط بصاحبه، فلذلك فسره بعضهم بقوله : خالطه الماء وداخله، فغذّى كل جزء منه. وقال الكرماني : فاختلط به اختلاط مجاورة، لأنّ الاختلاط تداخل الأشيائ بعضها في بعض انتهى. ولا يمنع اختلاط النبات بالماء على سبيل التداخل، فلا تقول : إنه اختلاط مجاورة. وقيل : اختلط اختلف وتنوع بالماء، وينبو لفظ اختلط عن هذا التفسير. وقيل : معنى اختلط تركب. وقيل : امتد وطال. وقال الزمخشري : فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً. وقال ابن عطية : وصلت فرقة النبات بقوله فاختلظ أي : اختلط النبات بعضه ببعض بسبب الماء انتهى. وعلى هذه الأقوال الباء في بماء للسببية، وأبعد من ذهب إلى أن الفاعل في قوله : فاختلط، هو ضمير يعود على الماء أي : فاختلط الماء بالأرض. ويقف هذا المذهب على قوله : فاختلط، ويستأنلف به نبات على الابتداء، والخبر المقدم. قال ابن عطية : يحتمل على هذا أن يعود الضمير في به على الماء وعلى الاختلاط الذي تضمنه الفعل انتهى. والوقف على قوله : فاختلط، لا يجوز وخاصة في القرآن لأنه تفكيك للكلام المتصل الصحيح المعنى، الفصيح اللفظ، وذهاب إلى اللغز والتعقيد، والمعنى الضعيف. ألا ترى أنه لو صرح بإظهار الاسم الذي الضمير في كناية عنه فقيل بالاختلاط نبات الأرض، أو بالماء نبات الأرض، لم يكد ينعقد كلاماً من مبتدأ وخبر لضعف هذا الإسناد وقربه من عدم الإفادة، ولولا أنّ ابن عطية ذكره وخرّجه على ما ذكرناه عنه لم نذكره في كتابنا. ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره، بيّن أنّ المراد أحد القسمين بمن فقال : مما يأكل الناس، كالحبوب والثمار والبقول والأنعام، كالحشيش وسائر ما يرعى. قال الحوفي : مِن متعلقه باختلط. وقال أبو البقاء : مما يأكل حال من النبات، فاقتضى قول أبي البقاء أن يكون العامل في الحال محذوفاً لأنّ المجرور والظرف إذا وقعا حالين كان العامل محذوفاً. وقول أبي البقاء : هو الظاهر، وتقديره : كائناً مما يأكل، وحتى غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولاً حتى تصحّ الغاية. فأما أن يقدر قبلها محذوف أي : فما زال ينمو حتى إذا، أو يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٠
وقوله : أخذت الأرض زخرفها وازينت، جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتست وتزينت بأنواع الحلى، فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وأثواب مختلفة، واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظة الزخرف وهو الذهب، لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس. وازينت أي : بنباتها وما أودع فيه من الحبوب والثمار والأزهار، ويحتمل أن يكون قوله : وازينت تأكيداً لقوله : أخذت الأرض زخرفها. واحتمل أن لا يكون تأكيداً، إذ قد يكون أخذ الزخرف لا لقصد التزيين، فقيل : وازينت ليفيد أنها قصدت التزيين. ونسبة الأخذ إلى الأرض والتزيين من بديع الاستعارة. وقرأ الجمهور : وازينت وأصله وتزينت، فأدغمت التاء في الزاي فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام. وقرأ أبي وعبد الله، وزيد بن علي، والأعمش : وتزينت على وزن تفعلت. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر، والحسن، والشعبي، وأبو العالية، وقتادة، ونصر بن عاصم، وابن هرمز، وعيسى الثقفي : وأزينت على وزن
١٤٣
أفعلت، كأحصد الزرع أي حضرت زينتها وحانت. وصحت الياء فيه على جهة الندور، كأعبلت المرأة. والقياس : وأزانت، كقولك وأبانت. وقرأ أبو عثمان النهدي بهمزة مفتوحة بوزن افعألت، قاله عنه صاحب اللواح قال : كأنه كانت في الوزن بوزن احكارّت، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة. ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة فقال : وقرأت فرقة وازيأنت وهي لغة منها قال الشاعر :
إذا ما الهوادي بالعبيط احمأرَّت


الصفحة التالية
Icon