يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة، المراد منه ظلمة الجهل وكدورة الضلالة انتهى. وكثيراً ما ينقل هذا الرجل عن حكماء الإسلام في التفسير، وينقل كلامهم تارة منسوباً إليهم، وتارة مستنداً به ويعني : بحكماء الفلاسفة الذين خلقوا في مدة الملة الإسلامية، وهم أحق بأنْ يسمّوا سفهاء جهلاء من أن يسموا حكماء، إذ هم أعداء الأنبياء والمحرفون للشريعة الإسلامية، وهم أضر على المسلمين من اليهود والنصارى. وإذا كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهى عن قراءة التوراة مع كونها كتاباً إلهياً، فلأنْ ينهى عن قراءة كلام الفلاسفة أحق. وقد غلب في هذا الزمان وقبله بقليل الاشتغال بجهالات الفلاسفة على أكثر الناس، ويسمونها الحكمة، ويستجهلون من عرى عنها، ويعتقدون أنهم الكملة من الناس، ويعكفون على دراستها، ولا تكاد تلقى أحداً منهم يحفط قرآناً ولا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم. ولقد غضضت مرة من ابن سينا ونسبته للجهل فقال لي بعضهم وأظهر التعجب من كون أحد يغض من ابن سينا : كيف يكون أعلم الناس بالله ينسب للجهل ؟ ولما ظهر من قاضي الجماعة أبي الوليد محمد بن أبي القاسم أحمد بن أبي الوليد بن رشد الاعتناء بمقالات الفلاسفة والتعظيم لهم، أغرى به علمائ الإسلام بالأندلس المنصور منصور الموحدين يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي ملك المغرب والأندلس حتى أوقع به ما هو مشهور من ضربه ولعنه وإهانته وإهانة جماعة منهم على رؤوس الإشهاد، وكان مما خوطب به المنصور في حقهم قول بعض العلماء الشعراء :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
خليفتنا جزاك الله خيراعن الإسلام والسعي الكريم
فحق جهاده جاهدت فيهإلى أن فزت بالفتح العظيم
وصيرت الأنام بحسن هدىعلى نهج الصراط المستقيم
فجاهد في أناس قد أضلوا طريق الشرع بالعلم القديم
وحرق كتبهم شرقاً وغرباففيها كامناً شر العلوم
يدب إلى العقائد من أذاهاسموم والعقائد كالجسوم
وفي أمثالها إذ لا دواءيكون السيف ترياق السموم
وقال :
يا وحشة الإسلام من فرقة شاغلة أنفسها بالسفه
قد نبذت دين الهدى خلفها وادعت الحكمة والفلسفه
وقال :
قد ظهرت في عصرنا فرقة ظهورها شؤم على العصر
لا تقتدي في الدين إلا بما سن ابن سينا أو أبو نصر
ولما حللت بديار مصر ورأيت كثيراً من أهلها يشتغلون بجهالات الفلاسفة ظاهراً من غير أن ينكر ذلك أحد تعجبت من ذلك، إذ كنا نشأنا في جزيرة الأندلس على التبرؤ من ذلك والإنكار له، وأنه إذا
١٤٩
بيع كتاب في المنطق إنما يباع خفية، وأنه لا يتجاسر أن ينطق بلفظ المنطق، إنما يسمونه المفعل، حتى أنّ صاحبنا وزير الملك ابن الأحمر أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن الحكيم كتب إلينا كتاباً من الأندلس يسألني أن أشتري أو أستنسخ كتاباً لبعض شيوخنا في المنطق، فلم يتجاسر أن ينطق بالمنطق وهو وزير، فسماه في كتابه لي بالمفعل. ولما ألبست وجوههم السواد قال : كأنما أغشيت وجوههم، ولما كانت ظلمة الليل نهاية في السواد شبه سواد وجوههم بقطع من الليل حال اشتداد ظلمته.
وقرأ ابن كثير والكسائي قطعاً بسكون الطاء، وهو مفرد اسم للشيء المقطوع. وقال الأخفش في قوله : بقطع من الليل، بسواد من الليل. وأهل اللغة يقولون : القطع ظلمة آخر الليل. وقال بعضهم : طائفة من الليل. وعلى هذه القراءة يكون قوله : مظلماً صفة لقوله : قطعاً، كما جاء ذلك في قراءة أبي : كأنما تغشى وجوههم قطع من الليل مظلم. وقرأ ابن أبي عبلة كذلك إلا أنه فتح الطاء. وقيل : قطع جمع قطعة، نحو سدر وسدرة، فيجوز إذ ذاك أن يوصف بالمذكر نحو : نخل منقعر، وبالمؤنث نحو نخل خاوية، ويجوز على هذا أن يكون مظلماً حالاً من الليل كما أعربوه في قراءة باقي السبعة، كأنما أغشيت وجوههم قطعاً بتحريك الطاء بالفتح من الليل : مظلماً بالنصب.


الصفحة التالية
Icon