﴿هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَـاهُمُ الْحَقِّا وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ : هنالك ظرف مكان أي : في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش. وقيل : هو إشارة إلى الوقت، استعير ظرف المكان للزمان أي : في ذلك الوقت. وقرأ الإخوان وزيد بن علي : تتلوا بتاءين أي : تتبع وتطلب ما أسلفت من أعمالها، قاله السدي. ومنه قول الشاعر :
إن المريب يتبع المريباكما رأيت الذيب يتلو الذيبا
قيل : ويصح أن يكون من التلاوة وهي القراءة أي : تقرأ كتبها التي تدفع إليها. وقرأ باقي السبعة : تبلوا بالتاء والبائ أي : تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن، أنافع أم ضار، أمقبول أم مردود ؟ كما يتعرف الرجل الشيء باختباره. وروي عن عاصم : نبلوا بنون وباء أي : نختبر. وكل نفس بالنصب، وما أسلفت بدل من كل نفس، أو منصوب على إسقاط الخافض أي : ما أسلفت. أو يكون نبلوا من البلاء وهو العذاب أي : نصيب كل نفس عاصية بالبلاء بسبب ما أسلفت من العمل المسيء. وعن الحسن تبلو تتسم. وعن الكلبي : تعلم. وقيل : تذوف. وقرأ يحيى بن وثاب : وردوا بكسر الراء، لما سكن للإدغام نقل حركة الدال إلى حركة الراء بعد حذف حركتها. ومعنى إلى الله إلى عقابه. وقيل : إلى موضع جزائه مولاهم الحق، لا ما زعموه من أصنامهم، إذ هو المتولي حسابهم. فهو مولاهم في الملك والإحاطة، لا في النصر والرحمة. وقرىء الحق بالنصب على المدح نحو : الحمد لله أهل الحمد. وقال الزمخشري : كقولك هذا عبد الله الحق لا الباطل، على تأكيد قوله : ردوا إلى الله انتهى. وقال أبو عبد الله الرازي : وردوا إلى الله، جعلوا ملجين إلى الإقرار بالإلهية بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غير الله، ولذلك قال : مولاهم الحق. وضل عنهم أي : بطل وذهب ما كانوا يفترونه من الكذب، أو من دعواهم أنّ أصنامهم شركاء لله سافعون لهم عنده.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
﴿قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالارْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالابْصَـارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ﴾ : لما بين فضائح عبدة الأوثان، أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم بما يوبخهم، ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة. فبدأ بما فيه قوام حياتهم وهو الرزق الذي لا بد منه، فمن السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات. فمن لابتداء الغاية وهيىء الرزق بالعالم العلوي والعالم السفلي معالم يقتصر على جهة واحدة، تعالى توسعة منه وإحساناً. ومن ذهب إلى أنّ التقدير من أهل السماء والأرض فتكون من للتبعيض أو للبيان. ثم ذكر ملكه لهاتين الحاستين الشريفتين : السمع الذي هو سبب مدارك الأشياء، والبصر
١٥٣
الذي يرى ملكوت السموات والأرض. ومعنى ملكهما أنه متصرف فيهما بما يشاء تعالى من إبقاء وحفظ وإذهاب. وقال الزمخشري : من يملك السمع والأبصار من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة، أو من يحميهما ويعصمهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه انتهى. ولا يظهر هذان الوجهان اللذان ذكرهما من لفظ أم من يملك السمع والأبصار. وعن عليّ كرم الله وجهه : سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم. وأم هنا تقتضي تتدير بل دون همزة الاستفهام لقوله تعالى :﴿بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ فلا تتقدّر ببل، فالهمزة لأنها دخلت على اسم الاستفهام، وليس إضراب إبطال به هو لانتقال من شيء إلى شيء. ونبه تعالى بالسمع والبصر على الحواس لأنهما أشرفها، ولما ذكر تعالى سبب إدامة الحياة وسبب انتفاع الحي بالحواس، ذكر إنشاءه تعالى واختراعه للحي من الميت، والميت من الحي، وذلك من باهر قدرته، وهو إخراج الضد من ضده. وتقدم تفسير ذلك ومن يدبر الأمر شامل لما تقدم من الأشياء الأربعة المذكورة ولغيرها، والأمور التي يدبرها تعالى لا نهاية لها، فلذلك جاء بالأمر الكلي بعد تفصيل بعض الأمور. واعترافهم بأنّ الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو الله أي : لا يمكنهم إنكاره ولا المنافسة فيه. ومعنى أفلا تتقون : أفلا تخافون عقوبة الله في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة ؟ وقيل : أفلا تتعظون فتنتهون عن ما حذرت عنه تلك الموعظة.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥


الصفحة التالية
Icon