﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْاًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمُا بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ : الظاهر أن أكثرهم على بابه، لأن منهم من تبصر في الأصنام
١٥٦
ورفضها كما قال :
أربّ يبول الثعلبان برأسهلقد هان من بالت عليه الثعالب
وقيل : المراد بأكثرهم جميعهم، والمعنى : ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظناً، ليسوا متبصرين ولا مستندين إلى برهان، إنما ذلك شيء تلقفوه من آبائهم. والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئاً أي : من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه، لأنه تجويز لا قطع. وقيل : وما يتبع أكثرهم في جعلهم الأصنام آلهة، واعتقادهم أنها تشفع عند الله وتقرب إليه. وقرأ عبد الله : تفعلون بالتاء على الخطاب التفاتاً والجملة تضمنت التهديد والوعيد على اتباع الظن، وتقليد الآباء. وقيل : نزلت في رؤساء اليهود قريش.
﴿وَمَا كَانَ هذا الْقُرْءَانُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ : لما تقدم قولهم :﴿ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَاذَآ أَوْ بَدِّلْهُ﴾ وكان من قولهم : إنه افتراه قال تعالى : وما كان هذا القرآن أن يفتري أي : ما صح، ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجزة مفترى. والإشارة بهذا فيها تفخيم المشار إليه وتعظيمه، وكونه جامعاً للأوصاف التي يستحيل وجودها فيه أن يكون مفترى. والظاهر أنّ أنْ يفتري هو خبر كان أي : افتراء، أي : ذا افتراء، أو مفترى. ويزعم بعض النحويين أنّ أنْ هذه هي المضمرة بعد لام الجحود في قولك : ما كان زيد ليفعل، وأنه لما حذفت اللام أظهرت أنْ وأنّ اللام وأن يتعاقبان، فحيث جيء باللام لم تأت بأن بل تقدرها، وحيث حذفت اللام ظهرت أنْ. والصحيح أنهما لا يتعاقبان، وأنه لا يجوز حذف اللام وإظهار أن إذ لم يقم دليل على ذلك. وعلى زعم هذا الزاعم لا يكون أنْ يفتري خبراً لكان، بل الخبر محذوف. وأن يفتري معمول لذلك الخبر بعد إسقاط اللام، ووقعت لكنْ هنا أحسن موقع إذ كانت بين نقيضين وهما : الكذب والتصديق المتضمن الصدق، والذي بين يديه الكتب الإلهية المتقدمة قاله ابن عباس كما جاء مصدّقاً لما معكم. وعم الزجاج الذي بين يديه أشراط الساعة، ولا يقوم البرهان على قريش إلا بتصديق القرآن ما في التوراة والإنجيل، مع أن الآتي به يقطعون أنه لم يطالع تلك الكتب ولا غيرها، ولا هي في بلده ولا قومه، لا بتصديق الإشراط، لأنهم لم يشاهدوا شيئاً منها. وتفصيل الكتاب تبيين ما فرض وكتب فيه من الأحكام والشرائع. وقرأ الجمهور : تصديق وتفصيل بالنصب، فخرجه الكسائي والفراء ومحمد بن سعدان والزجاج على أنه خبر كان مضمرة أي : ولكن كان تصديق أي مصدقاً ومفصلاً. وقيل : انتصب مفعولاً من أجله، والعامل محذوف، والتقدير : ولكن أنزل للتصديق. وقيل : انتصب على المصدر، والعامل فيه فعل محذوف. وقرأ عيسى بن عمر : تفصيل وتصديق بالرفع، وفي يوسف خبر مبتدأ محذوف أي : ولكن هو تصديق. كما قال الشاعر :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
ولست الشاعر السفساف فيهمولكن مده الحرب العوالي
أي ولكن أنا. وزعم الفراء ومن تابعه أنّ العرب إذا قالت ولكن بالواو آثرت تشديد النون، وإذا لم تكن الواو آثرت التخفيف. وقد جاء في السبعة مع الواو التشديد والتخفيف، ولا ريب فيه داخل في حيز الاستدراك كأنه قيل : ولكن تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب، كائناً من رب العالمين. قال الزمخشري : ويجوز أن يراد ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه في ذلك، فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل، ويكون لا ريب فيه اعتراضاً كما تقول : زيد لا شك فيه كريم انتهى. فقوله : فيكون من رب العالمين متعلقاً بتصديق وتفصيل، إنما يعني من جهة المعنى، وأما من جهة في البقرة في قوله :
١٥٧
﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ﴾ وجمع بينه وبين قوله :﴿وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا﴾.


الصفحة التالية
Icon