﴿وَمِنْهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِا وَمِنْهُم مَّن لا يُؤْمِنُ بِهِا وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾ : الظاهر أنه إخبار بأنّ من كفار قريش من سيؤمن به وهو من سبقت له السعادة، ومنهم من لا يؤمن به فيوافى على الكفر. وقيل : هو تقسيم في الكفار الباقين على كفرهم، فمنهم من يؤمن به باطناً ويعلم أنه حق ولكنه كذب عناد، ومنهم من لا يؤمن به لا باطناً ولا ظاهراً، إما لسرعة تكذيبه وكونه لم يتدبره، وإما لكونه نظر فيه فعارضته الشبهات وليس عنده من الفهم ما يدفعها. وفيه تفريق كلمة الكفار، وأنهم ليسوا مستوين في اعتقاداتهم، بل هم مضطربون وإن شملهم التكذيب والكفر. وقيل : الضمير في ومنهم عائد على أهل الكتاب، والظاهر وعوده على من عاد عليه ضمير أم يقولون، وتعلق العلم بالمفسدين وحدهم تهديد عظيم لهم.
﴿وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِى وَلَكُمْ عَمَلُكُم أَنتُم بَرِيئونَ مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ : أي وإن تمادوا على تكذيبك فتبرأ منهم قد أعذرت وبلغت كقوله :﴿فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ ومعنى لي عملي أي : جزاء عملي ولكم جزاء عملكم. ومعنى عملي الصالح المشتمل على الإيمان والطاعة، ولكم عملكم المشتمل على الشرك والعصيان. والظاهر أنها آية منابذة لهم وموادعة، وضمنها الوعيد كقوله :﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ﴾ السورة. وقيل : المقصود بذلك استمالتهم وتأليف قلوبهم. وقال قوم منهم ابن زيد : هي منسوخة بالقتال لأنها مكية، وهو قول : مجاهد، والكلبي، ومقاتل. وقال المحققون : ليست بمنسوخة، ومدلولها اختصاص كل واحد بأفعاله، وثمراتها من الثواب والعقاب، ولم ترفع آية السيف شيئاً من هذا. وبدأ في المأمور بقوله : لي عملي لأنه آكد في الانتفاء منهم وفي البراءة بقوله : أنتم بريئون مما أعمل، لأنّ هذه الجملة جاءت كالتوكيد والتتميم لما قبلها، فناسب أنْ تلي قوله : ولكم عملكم. ولمراعاة الفواصل، إذ لو تقدم ذكر براءة كما تقدم ذكر لي عملي لم تقع الجملة فاصلة، إذ كان يكون التركيب وأنتم بريئون مما أعمل.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٥
﴿وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَا أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ * وَمِنْهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَا أَفَأَنتَ تَهْدِى الْعُمْىَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ * إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْاًا وَلَاكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ : قال ابن عباس : نزلت الآيتان في النضر بن الحرث وغيره من المستهزئين. وقال ابن الأنباري : في قوم من اليهود انتهى. وهذه الآية فيها تقسيم من لا يؤمن من الكفار إلى هذين القسمين بعد تقسيم المكذبين إلى من يؤمن ومن لا يؤمن، والضمير في يستمعون عائد على معنى مَن، والعود على المعنى دون العود على اللفظ في الكثرة وهو كقوله :﴿وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ﴾ والمعنى : من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع، ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله : أفأنت تسمع الصم أي هم، وإن استعموا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قبول، ولا سيما قد انضاف إلى الصمم انتفاء العقل، فجر بمن عدم السمع والعقل أن لا يكون له إدراك لشيء البتة، بخلاف أنْ لو كان الأصم عاقلاً فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء. وأعاد في قوله : ومنهم من ينظر إليك الضمير مفرداً مذكراً على لفظ من، وهو الأكثر في لسان العرب. والمعنى : أنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل فقد فقدوه، هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة، إذ مَن كان أعمى فإنه مهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس، وهذه قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة، وهذا مبالغة عظيمة في انتفاء قبول ما يلقى إلى هؤلاء، إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل، وبين العمى وفقد البصيرة. وقوله : أفأنت : تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم، وأن لا يكترث بعدم قبولهم، فإنّ الهداية إنما هي لله. قال ابن عطية : جاء ينظر على لفظ من، وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها فلا يجوز أن يعطف عليه بآخر على اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ انتهى. وليس كما قال، بل يجوز أن تراعى المعنى أولاً فتعيد الضمير على حسب ما تريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو. والمقصود من الآيتين : إعلامه عليه السلام بأن هؤلاء الكفار قد انتهوا في النفرة والعداوة والبغض الشديد في رتبة من لا ينفع فيه علاج البتة، لأنّ من كان أصم أحمق وأعمى فاقد البصيرة لا يمكن ذلك أن يقف على محاسن الكلام وما انطوى عليه من الإعجاز، ولا يمكن هذا أن يرى ما أجرى الله على يدي رسوله من الخوارق، فقد أيس من هداية هؤلاء. وقال الشاعر :


الصفحة التالية
Icon