﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِا يَـاقَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِى وَتَذْكِيرِى بآيات اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً﴾ : لما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته، وذكر ما جرى بين الرسول وبين الكفار، ذكر قصصاً من قصص الأنبياء وما جرى هم مع قومهم من الخلاف وذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلّم، وليتأسى بمن قبله من الأنبياء فيخف عليه ما يلقى منهم من التكذيب وقلة الاتباع، وليعلم المتلوّ عليهم هذا القصص عاقبة من كذب الأنبياء، وما منح الله نبيه من العلم بهذا القصص وهو لم يطالع كتاباً ولا صحب عالماً، وأنها طبق ما أخبر به. فدل ذلك على أن الله أوحاه إليه وأعلمه به، وأنه نبي لا شك فيه. والضمير في عليهم عائد على أهل مكة الذين تقدم ذكرهم. وكبر معناه عظم مقامي أي : طول مقامي فيكم، أو قيامي للوعظ. كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً ليروه وهم قعود، وكقيام الخطيب ليسمع الناس وليروه، أو نسب ذلك إلى مقامه والمراد نفسه كما تقول : فعلت كذا لمكان فلان، وفلان ثقيل الظل تريد لأجل فلان وفلان ثقيل. قال ابن عطية : ولم يقرأ هنا بضم الميم انتهى. وليس كما ذكر، بل قرأ مقامي بضم الميم أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء. والمقام الإقامة بالمكان، والمقام مكان القيام. والتذكير وعظه إياهم وزجرهم عن المعاصي، وجواب الشرط محذوف تقديره : فافعلوا ما شئتم. وقيل : الجواب فعلى الله توكلت. وفأجمعوا معطوف على الجواب، وهو لا يظهر لأنه متوكل على الله دائماً. وقال الأكثرون : الجواب فأجمعوا، وفعلى الله توكلت جملة اعتراض بين الشرط وجزائه كقوله :
أما تريني قد نحلت ومن يكنغرضاً لأطراف الأسنة ينحل فلرب أبلج مثل ثقلك بادن ضخم على ظهر الجواد مهبل
وقرأ الجمهور : فأجمعوا من أجمع الرجل الشيء عزم عليه ونواه. قال الشاعر :
أجمعوا أمرهم بليل فلماأصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
وقال آخر :
١٧٨
يا ليت شعري والمنى لا تنفعهل أعذرت يوماً وأمري مجمع
وقال أبو قيد السدوسي : أجمعت الأمر أفصح من أجمعت عليه. وقال أبو الهيثم : أجمع أمره جعله مجموعاً بعدما كان متفرقاً، قال : وتفرقته أنه يقول مرة أفعل كذا، ومرة أفعل كذا، فإذا عزم على أمر واحد قد جعله أي : جعله جميعاً، فهذا هو الأصل في الإجماع، ثم صار بمعنى العزم حتى وصل بعلى، فقيل : أجمعت على الأمر أي عزمت عليه، والأصل أجمعت الأمر انتهى. وعلى هذا القراءة يكون وشركاءكم عطفاً على أمركم على حذف مضاف أي : ك وأمر شركائكم، أو على أمركم من غير مراعاة محذوف. لأنه يقال أيضاً : أجمعت شركائي، أو منصوباً بإضمار فعل أي : وادعوا شركاءكم، وذلك بناء على أنه لا يقال أجمعت شركائي يعني في الأكثر، فيكون نظير قوله :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٧٨
فعلفتها تبناً وماء بارداحتى شتت همالة عيناها
في أحد المذهبين أي : وسقيتها ماء بارداً، وكذا هي في مصحف أبي. وادعوا شركاءكم، وقال أبو علي : وقد تنصب الشركاء بواو مع كما قالوا : جاء البرد والطيالسة. ولم يذكر الزمخشري في نصب، وشركاءكم غير قول أبي على أنه منصوب بواو مع، وينبغي أن يكون هذا التخريج عل أنه مفعول معه من الفاعل وهو الضمير في فاجمعوا لا من المفعول الذي هو أمركم، وذلك على أشهر الاستعمالين. لأنه يقال : أجمع الشركاء، ولا يقال جمع الشركاء أمرهم إلا قليلاً، ولا أجمعت الشركاء إلا قليلاً. وفي اشتراط صحة جواز العطف فيما يكون مفعولاً معه خلاف، فإذا جعلناه من الفاعل كان أولى. وقرأ الزهري، والأعمش، والجحدري، وأبو رجاء، والأعرج، والأصمعي عن نافع، ويعقوب : بخلاف عنه فاجمعوا بوصل الألف وفتح الميم من جمع، وشركاءكم عطف على أمركم لأنه يقال : شركائي، أو على أنه مفعول معه، أو على حذف مضاف أي : ذوي الأمر منكم، فجرى على المضاف إليه ما جرى على المضاف، لو ثبت قاله أبو علي. وفي كتاب اللوامح : أجمعت الأمر أي جعلته جميعاً، وجمعت الأموال جميعاً، فكان الإجماع في الإحداث والجمع في الإعيان، وقد يستعمل كل واحد مكان الآخر. وفي التنزيل :﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾ انتهى.
وقرأ أبو عبد الرحمن، والحسن، وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وسلام، ويعقوب فيما روي عنه : وشركاؤكم بالرفع، ووجه بأنه عطف على الضمير في فأجمعوا، وقد وقع الفصل بالمفعول فحسن، وعلى أنه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما قبله عليه أي : وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم. وقرأت فرقة : وشركائكم بالخفض عطفاً على الضمير في أمركم أي : وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر :
أكل امرىء تحسبين أمرءاوتار توقد بالليل ناراً


الصفحة التالية
Icon