يثنون صدورهم يزوّرون عن الحق وينحرفون عنه، لأنّ من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازورّ عنه وانحرف ثنى عنه صدره وطوى عنه كشحه ليستخفوا منه، يعني : ويريدون ليستخفوا من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على ازورارهم. ونظير إضمار يريدون، لعود المعنى إلى إضماره الإضمار في قوله تعالى :﴿أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَا فَانفَلَقَ﴾ معناه : فضرب فانفلق. ومعنى ألا حين : يستغشون ثيابهم ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله كقول نوح عليه السلام :﴿جَعَلُوا أَصَـابِعَهُمْ فِى ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا ﴾ انتهى. فالضمير في منه على قوله عائد على الله، قال ابن عطية : وهذا هو الأفصح الأجزل في المعنى انتهى. ويظهر من بعض أسباب النزول أنه عائد على الرسول صلى الله عليه وسلّم كما قال ابن عطية. قال : قيل : إنّ هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر، وردّوا إليه ظهورهم، وغشوا وجوههم بثيابهم تباعداً منهم وكراهية للقائه، وهم يظنون أنّ ذلك يخفى عليه أو عن الله تعالى فنزلت الآية انتهى. فعلى هذا يكون ليستخفوا متعلقاً بقوله يثنون، وكذا قال الحوفي. وقيل : هي استعارة للغل، والحقد الذي كانوا ينطون عليه كما تقول : فلان يطوي كشحه على عداوته، ويثني صدره عليها، فمعنى الآية : ألا أنهم يسرون العداوة ويتكتمون لها، ليخفي في ظنهم عن الله عز وجل، وهو تعالى حين تغشيهم بثيابهم وإبلاغهم في التستر يعلم ما يسرون انتهى. فعلى هذا يكون حين معمولاً لقوله : يعلم، وكذا قاله الحوفي لا للمضمر الذي قدره الزمخشري وهو قوله : ويريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم. وقال أبو البقاء : ألا حين العامل في الظرف محذوف أي : ألا حين يستغشون ثيابهم يستخفون، ويجوز أن يكون ظرفاً ليعلم. وقيل : كان بعضهم ينحني على بعض ليساره في الطعن على المسلمين، وبلغ من جهلهم أنّ ذلك يخفى على الله تعالى. قال قتادة : أخفى ما يكون إذا حتى ظهره واستغشى ثوبه، وأضمر في نفسه همته. وقال مجاهد : يطوونها على الكفر. وقال ابن عباس : يخفون ما في صدورهم من الشحناء. وقال قتادة : يخفون ليسمعوا كلام الله. وقال ابن زيد : يكتمونها إذا ناجى بعضاً في أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم. وقيل : يثنونها حياءً من الله تعالى، ومعنى يستغشون : يجعلونها أغشية. ومنه قول الخنساء :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨
أرعى النجوم وما كلفت رعيتهاوتارة أتغشى فضل أطماري
وقيل : المراد بالثياب الليل، واستعيرت له لما بينهما من العلاقة بالستر، لأن الليل يستر كما تستر الثياب ومنه قولهم : الليل أخفى للويل، وقرأ ابن عباس : على حين يستغشون. قال ابن عطية : ومن هذا الاستعمال قول النابغة :
على حين عاتبت المشيب على الصباوقلت ألما أصح والشيب وازع
انتهى.
وقال ابن عباس : ما يسرون بقلوبهم، وما يعلنون بأفواههم. وقيل : ما يسرون بالليل وما يعلنون بالنهار. وقال ابن الأنباري : معناه أنه يعلم سرائرهم كما يعلم مظهرانهم. وقال الزمخشري : يعني أنه لا تفاوت في علمه بين إسرارهم وإعلانهم، فلا وجه لتوصلهم إلى ما يريدون من الاستخفاء والله مطلع على ثنيهم صدورهم، واستغشائهم بثيابهم، ونفاقهم غير نافق عنده. وقال صاحب التحرير : الذي يقتضيه سياق الآية أنه أراد بما يسرون ما انطوت عليه صدورهم من الشرك والنفاق والغل والحسد والبغض للنبي صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، لأنّ ذلك كله من أعمال القلوب، وأعمال القلوب خفيه جدًّا، وأراد بما يعلنون ما يظهرونه من استدبارهم النبي صلى الله عليه وسلّم وتغشيه ثيابهم،
٢٠٣
وسدّ آذانهم وهذه كلها أعمال ظاهرة لا تخفى.


الصفحة التالية
Icon