ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما يوحى إليه إلا لدعواهم، أنه ليس من عند الله، وأنه هو الذي افتراه، وإنما تحداهم أولاً بعشر سور مفتريات قبل تحديهم بسورة، إذ كانت هذه السورة مكية، والبقرة مدنية، وسورة يونس أيضاً مكية، ومقتضى التحدي بعشر أن يكون قبل طلب المعارضة بسورة، فلما نسبوه إلى الافتراء طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إرخاء لعنانهم، وكأنه يقول : هبوا إني اختلقته ولم يوح إليّ فأتوا أنتم بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم، فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام، وإنما عين بقوله : مثله، في حسن النظم والبيان وإن كان مفتري وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولاً بأنْ يفعل أمثالاً مما فعل هو، ثم إذا تبين عجزه قال له : افعل مثلاً واحداً ومثل يوصف به المفرد والمثنى والمجموع كما قال تعالى :﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾ وتجوز المطابقة في التثنية والجمع كقوله :﴿ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَـالَكُم﴾ ﴿وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَـالِ اللُّؤْلُواِ الْمَكْنُونِ﴾ وإذا أفرد وهو تابع لمثنى أو مجموع فهو بتقدير المثنى، والمجموع أي : مثلين وأمثال. والمعنى هنا بعشر سور أمثاله ذهاباً إلى مماثلة كل سورة منها له. وقال ابن عطية : وقع التحدي في هذه الآية بعشر لأنه قيدها بالافتراء، فوسع عليهم في القدر لتقوم الحجة غاية القيام، إذ قد عجزهم في غير هذه الآية بسورة مثله دون تقييد، فهي مماثلة تامة في غيوب القرآن ونظمه ووعده ووعيده، وعجزوا في هذه الآية بأن قيل لهم : عارضوا القدر منه بعشر أمثاله في التقدير، والغرض واحد، واجعلوه مفتري لا يبقى لكم إلا نظمه، فهذه غاية التوسعة. وليس المعنى عارضوا عشر سور بعشر، لأكن هذه إنما كانت تجيء معارضة سورة بسورة مفتراة، ولا يبالي عن تقديم نزول هذه على هذه، ويؤيد هذا النظر أن التكليف في آية البقرة إنما هو بسبب الريب، ولا يزيل الريب إلا العلم بأنهم لا يقدرون على المماثلة التامة. وفي هذه الآية إنما التكليف بسبب قولهم افتراه وكلفوا نحو ما قالوا : ولا يطرد هذا في آية يونس. وقال بعض الناس : هذه مقدمة في النزول على تلك، ولا يصح أن تكون السورة الواحدة إلا مفتراة، وآية سورة يونس في تكليف سورة مرتبة على قولهم افتراه، وكذلك آية البقرة إنما رمتهم بأن القرآن مفتري. وقائل هذا القول لم يلحظ الفرق بين التكليفين في كمال المماثلة مرة، ووقوفها على النظم مرة انتهى. والظاهر أن قوله : مثله، لا يراد به الثلية في كون المعارض عشر سور، بل مثله يدل على مماثلة في مقدار ما من القرآن. وروي عن ابن عباس : أنّ السور التي وقع بها طلب المعارضة لها هي معينة البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود. فقوله : مثله، أي مثل هذه عشر السور، وهذه السور أكثرها مدني، فكيف تصح الحوالة بمكة على ما لم ينزل بعد ؟ ولعل هذا لا يصح عن ابن عباس. والضمير في فإن لم يستجيبوا لكم، عائد على ن طلب مهم المعارضة، ولكم الضمير جمع يشمل الرسول والمؤمنين. وجوز أن يكون خطاباً للرسول صلى الله عليه وسلّم على سبيل التعظيم، كما جاء "فإن لم يستجيبوا لك" قاله : مجاهد. وقيل : ضمير يستجيبوا عائد على المدعوين، ولكم خطاب للمأمورين بدعاء من استطاعوا قاله الضحاك أي فإنْ لم يستجب من تدعونه إلى المعارضة فأذعنوا حينئذ، واعلموا أنه من عند الله وأنه أنزل ملتبساً بما لا يعلمه لا الله من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه.
٢٠٨
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨


الصفحة التالية
Icon