واعلموا عند ذلك أنه لا إله إلا هو، وأن توحيده واجب، فهل أنتم مسلمون ؟ أي تابعون للإسلام بعد ظهور هذه الحجة القاطعة ؟ وعلى أن الخطاب للمؤمنين معنى فاعلموا أي : دوموا على العلم وازدادوا يقيناً وثبات قدم أنه من عند الله. ومعنى فهل أنتم مسلمون : أي مخلصو الإسلام، وقال مقاتل : بعلم الله، بإذن الله. وقال الكلبي : بأمره. وقال القتبي : من عند الله، والذي يظهر أن الضمير في فإن لم يستجيبوا عائد على من استطعتم، وفي لكم عائد على الكفار، لعود الضمير على أقرب مذكور، ولكون الخطاب يكون لواحد. ولترتب الجواب على الشرط ترتباً حقيقياً من الأمر بالعلم، ولا يتحرر بأنه أراد به فدوموا على العلم، ودوموا على العلم بأنه لا إله إلا هو، ولأن يكون قوله : فهل أنتم مسلمون تحريضاً على تحصيل الإسلام، لا أنه يراد به الإخلاص. ولما طولبوا بالمعارضة وأمروا بأن يدعوا من يساعدهم على تمكن المعارضة، ولا استجاب أصنامهم ولا آلهتهم لهم، أمروا بأن يعلموا أنه من عند الله وليس مفتري فتمكن معارضته، وأنه تعالى هو المختص بالألوهية لا يشركه في شيء منها آلهتهم وأصنامهم، فلا يمكن أن يجيبوا لظهور عجزهم، وأنها لا تنفع ولا تضر في شيء من المطالب. وقرأ زيد بن علي : إنما نزل بفتح النون والزاي وتشديدها، واحتمل أن تكون ما مصدرية أي : أنّ التنزيل، واحتمل أن تكون بمعنى الذي أي : إن الذي نزله، وحذف الضمير المنصوب لوجود جواز الحذف.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَـالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوالَـا ـاِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِى الاخِرَةِ إِلا النَّارُا وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَـاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ : مناسبة هذه الآية لما قبلها، أنه تعالى لما ذكر شيئاً من أحوال الكفار المناقضين في القرآن، ذكر شيئاً من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة. وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا، والجزاء مقرون بمشيئته تعالى كما بين ذلك في قوله تعالى :﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَه فِيهَا مَا نَشَآءُ﴾ الآية. وقال مجاهد : في في الكفرة، وفي أهل الرياء من المؤمنين. وإلى هذا ذهب معونة حين حدث بقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم في المرائين، فتلا هذه الآية. وقال أنس : هي في اليهود والنصارى. قال ابن عطية : ومعنى هذا أنهم يدخلون في هذه الآية لا أنها ليست لغيرهم. وقيل : في المنافقين الذين جاهدوا مع الرسول فأسهم لهم، ومعنى يريد الحياة الدنيا أي يقصد بأعماله التي يظهر أنها صالحة الدنيا فقط، ولا يعتقد آخره. فإنّ الله يجازيه على حسن أعماله كما جاء، وأما الكافر فيطعمه في الدنيا بحسناته. وإن اندرج في العموم المراؤون من أهل القبلة كما ترى أحدهم إذا صلى إماماً يتنغم بألفاظ القرآن، ويرتله أحسن ترتيل، ويطيل ركوعه وسجوده، ويتباكى في قراءته، وإذا صل وحده اختلسها اختلاساً، وإذا تصق أظهر صدقته أمام من يثني عليه، ودفعها لمن لا يستحقها حتى يثني عليه الناس، وأهل الرباط المتصدق عليهم. وأين هذا من رجل يتصدق خفية وعلى من لا يعرفه، كما جاء في :"السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه" وهذه مبالغة في إخفاء الصدقة جداً، وإذا تعلم علماً راءى به وتبجح، وطلب بمعظمه يسير حطام من عرض الدنيا. وقد فشا الرياء في هذه الآية فشواً كثيراً حتى لا تكاد ترى مخلصاً لله لا في قول، ولا في فعل، فهؤلاء من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة. وقرأ الجمهور : نوفّ بنون العظمة، وطلحة بن ميمون : يوف بالياء على الغيبة. وقرأ زيد بن علي : يوف بالياء مخففاً مضارع أوفى. وقرىء توف بالتاء مبنياً للمفعول، وأعمالهم بالرفع، وهو على هذه القراءات مجزوم جواب الشرط، كما انجزم في قوله :﴿مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الاخِرَةِ نَزِدْ لَه فِى حَرْثِهِا﴾ وحكي عن الفراء أنّ
٢٠٩
كان زائدة، ولهذا جزم الجواب. ولعله لا يصح، إذ لو كانت زائدة لكان فعل الشرط يريد، وكان يكون مجزوماً، وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضياً والجواب مضارعاً ليس مخصوصاً بكان، بل هو جائز في غيرها. كما روي في بيت زهير :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨
ومن أهاب أسباب المنايا ينلنهولو رام أن يرقى السماء بسلم
وقرأ الحسن : توفي بالتخفيف وإثبات الياء، فاحتمل أن يكون مجزوماً بحذف الحركة المقدرة على لغة من قال : ألم يأتيك وهي لغة لبعض العرب، واحتمل أن يكون مرفوعاً كما ارتفع في قول الشاعر :
وإن شل ريعان الجميع مخافةيقول جهاراً ويلكم لا تنفروا


الصفحة التالية
Icon