والحصر في كينونة النار لهم ظاهر في أنّ الآية في الكفار، فإنْ اندرج أهل الرياء فيها فيكون المعنى في حقهم : ليس يجب لهم أو لا يحق لهم إلا النار كقوله :﴿فَجَزَآؤُه جَهَنَّمُ﴾ وجائز أن يتغمدهم الله برحمته وهو ظاهر قول ابن عباس وابن جبير. والضمير في قوله : ما صنعوا فيها، الظاهر أنه عائد على الآخرة، والمحرور متعلق بحبط، والمعنى : وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة. ويجوز أن تتعلق بقوله : صنعوا، فيكون عائداً على الحياة الدنيا، كما عاد عليها في فيها قبل. وما في ماصنعوا بمعنى الذي. أو مصدرية، وباطل وما بعده توكيداً لقوله : وحبط ما صنعوا، وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل، وما كانوا هو المبتدأ، وإن كان خبراً بعد خبرٍ ارتفع ما بباطل على الفاعلية. وقرأ زيد بن علي : وبطل جعله فعلاً ماضياً. وقرأ أبي، وابن مسعود : وباطلاً بالنصب، وخرجه صاحب اللوامح على أنه مفعول ليعملون، فهو معمول خبر كان متقدماً. وما زائدة أي : وكانوا يعملون باطلاً، وفي جواز هذا التركيب خلاف بين النحويين. وهو أن يتقدم معمول الخبر على الجملة بأسرها من كان اسمها وخبرها، ويشهد للجواب قوله تعالى :﴿أَهَـا ؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ ومن منع تأول. وأجاز الزمخشري أن ينتصب باطلاً على معنى المصدر على بطل بطلانا ما كانوا يعملون، فتكون ما فاعلة، وتكون من إعمال المصدر الذي هو بدل من الفعل في غير الاستفهام والأمر، وحق أن يبطل أعمالهم لأنها لم تعمل لوجه صحيح، والعمل الباطل لا ثواب له.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨
﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِا وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِا كِتَـابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةًا أُوالَئاِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِا وَمَن﴾ : لمّا ذكر حال من يريد الحياة الدنيا ذكر حال من يريد وجه الله تعالى بأعماله الصالحة، وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة والتقدير : كمن يريد الحياة الدنيا. وكثيراً ما حذف في القرآن كقوله :﴿أَفَمَن زُيِّنَ لَه سُواءُ عَمَلِهِا فَرَءَاهُ حَسَنًا ﴾ وقوله :﴿أَمَّنْ هُوَ قَـانِتٌ ءَانَآءَ الَّيْلِ﴾ وهذا استفهام معناه اتقرير. قال الزمخشري : أي، لا تعقبونهم في المنزلة ولا تفارقونهم، يريد أنّ بين الفريقين تفاوتاً بعيداً وتبايناً بيناً، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره، كان على بينة من ربه أي : على برهان من الله تعالى وبيان أن دين الإسلام حق وهو دليل العقل، ويتلوه ويتبع ذلك البرهان شاهد منه أي : شاهد يشهد بصحته وهو القرآن منه من الله، أو شاهد من القرآن ومن قبله. ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة أي : ويتلو ذلك أيضاً من قبل القرآن كتاب موسى. وقرىء كتاب موسى بالنصب، ومعناه كان على بينة من ربه وهو الدليل على أنّ القرآن حق، ويتلوه ويقرأ القرآن شاهد منه، شاهد ممن كان على بينة كقوله :﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنا بَنِى إسرائيل عَلَى مِثْلِهِ﴾ قل :﴿كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْا عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَـابِ﴾ ﴿وَمِن قَبْلِهِا كِتَـابُ مُوسَى ﴾ ويتلوه ومن قبل التوراة إماماً كتاباً مؤتماً في الدين قدوة فيه انتهى. وقيل في أفمن كان : المؤمنون بالرسول،
٢١٠
وقيل : محمد صلى الله عليه وسلّم خاصة. وقال علي بن أبي طالب، وابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والضحاك : محمد والمؤمنون جميعاً، والبينة القرآن أو الرسول، والهاء للمبالغة والشاهد. قال ابن عباس، والنخعي، ومجاهد، والضحاك، وأبو صالح، وعكرمة : هو جبريل. وقال الحسن بن علي : هو الرسول. وقال أيضاً مجاهد : هو ملك وكله الله بحفظ القرآن. قال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بهذه الألفاظ جبريل، وقيل : هو علي بن أبي طالب. وروى المنهال عن عبادة بن عبد الله، قال علي كرم الله وجهه : ما في قريش أحد إلا وقد نزلت فيه آية قيل : فما نزل فيك ؟ قال : ويتلوه شاهد منه، وبه قال محمد بن علي وزيد بن علي. وقيل : هو الإنجيل قاله : الفراء. وقيل : هو القرآن، وقيل : هو إعجاز القرآن قاله الحسين بن الفضل، وقيل : صورة الرسول صلى الله عليه وسلّم ووجهه ومخايله، لأنّ كل عاقل نظر إليه علم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقيل : هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، والضمير في منه يعود إلى الدين أو إلى الرسول، أو إلى القرآن. ويتلوه بمعنى يتعه، أو يقرؤه، والضمير المرفوع في يتلوه والمنصوب والمجرور في منه يترتب على ما يناسبه كل قوم من هذه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨


الصفحة التالية
Icon