جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨
﴿قَالَ يَـاَادَمُ﴾ : لما حكى شبههم في إنكار نبوّة نوح عليه السلام وهي قولهم :﴿مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِّثْلَنَا﴾ ذكر أنّ المساواة في البشرية لا تمنع من حصول المفارقة في صفة النبوّة والرسالة، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه على جهة التعليق والإمكان، وهو متيقن أنه على بينة من معرفة الله وتوحيده، وما يجب له وما يمتنع، ولكنه أبرزه على سبيل العرض لهم والاستدراج للإقرار بالحق، وقيام الحجة على
٢١٥
الخصم، ولو قال : على إني على حق من ربي لقالوا له كذبت، كقوله :﴿أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَن يَقُولَ رَبِّىَ اللَّهُ﴾ الآية فقال فيها : وإن يك كاذباً فعليه كذبه. والبينة البرهان، والشاهد بصحة دعواه ابن عباس الرحمة والنبوّة مقاتل الهداية غيرهما التوفيق والنبوّة والحكمة. والظاهر أن البينة غير الرحمة، فيجوز أن يراد بالبينة المعجزة، وبالرحمة النبوّة. ويجوز أن تكون البينة هي الرحمة، ومن عنده تأكيد وفائدته رفع الاشتراك ولو بالاستعارة، فعميت عليكم. الظاهر أنّ الضمير عائد على البينة، وبذلك يحصل الذم لهم من أنه أتى بالمعجزة الجلية الواضحة، وأنها على وضوحها واستنارتها خفيت عليهم، وذلك بأنه تعالى سلبهم علمها ومنعهم معرفتها. فإن كانت الرحمة هي البينة فعود الضمير مفرداً ظاهر، وإن كانت غيرها كما اخترناه. فقوله : وآتاني رحمة من عنده، اعتراض بين المتعاطفين. قال الزمخشري : حقه أن يقال : فعميتا. (قلت) : الوجه أن يقدر فعميت بعد البينة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره، فتلخص أن الضمير يعود إما على البينة، وإما على الرحمة، وإما عليهما باعتبار أنهما واحد. ويقول للسحاب العماء لأنه يخفي ما فيه، كما يقال له الغمام لأنه يغمه. وقيل : هذا من المقلوب، فعميتم أنتم عنها كما تقول العرب : أدخلت القلنسوة في رأسي، ومنه قول الشاعر :
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨
قال أبو علي : وهذا مما يقلب، هذ ليس فيه إشكال، وفي القرآن :﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِا رُسُلَهُا ﴾ انتهى. والقلب عند أصحابنا مطلقاً لا يجوز إلا في الضرورة، وأما قول الشاعر : فليس من باب القلب بل من باب الاتساع في الظرف. وأما الآية فأخلف يتعدّى إلى مفعولين، ولكان يضيف إلى أيهما شئت فليس من باب القلب، ولو كان فعميت عليكم من باب القلب لكان التعدي بعن دون على. ألا ترى أنك تقول : عميت عن كذا، ولا تقول عميت على كذا ؟ وقرأ الإخوان وحفص : فعميت بضم العين وتشديد الميم مبنياً للمفعول، أي أبهمت عليكم وأخفيت، وباقي السبعة فعميت بفتح العين وتخفيف الميم مبنياً للفاعل. وقرأ أبيّ، وعليّ، والسلميّ، والحسن، والأعمش : فعماها عليكم. وروى الأعمش عن أبي وثاب : وعميت بالواو خفيفة. قال الزمخشري :(فإن قلت) : فما حقيقته ؟ (قلت) : حقيقته أنّ الحجة كما جعلت بصيرة ومبصرة جعلت عمياء، لأنّ الأعمى لا يهتدي، ولا يهدي غيره، فمعنى فعميت عليكم البينة فلم تهدكم، كما لو عمي على القوم دليلهم في المفازة بقوا بغير هاد. (فإن قلت) : فما معنى قراءة أبيّ ؟ (قلت) : المعنى أنهم صمموا على الإعراض عنها فخلاهم الله وتصميمهم، فجعلت تلك التخلية تعمية منه، والدليل عليه : أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ؟ يعني : أنكرهكم على قبولها ونقسركم على الاهتداء بها وأنتم تكرهونها ولا تختارونها، ولا إكراه في الدين انتهى. وتوجيهه قراءة أبيّ هو على طريقة المعتزلة، وتقدّم في سورة الأنعام الكلام على ﴿أَرَءَيْتُمْ﴾ مشبعاً، وذكرنا أن العرب تعديها إلى مفعولين : أحدهما منصوب، والثاني أغلب ما يكون جملة استفهامية. تقول : أرأيتك زيداً ما صنع، وليس استفهاماً حقيقياً عن الجملة. وأنّ العرب ضمنت هذه الجملة معنى أخبرني، وقررنا هناك أن قوله :﴿أَرَءَيْتَكُمْ إِنْ أَتَـاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ﴾ أنه من باب الأعمال تنازع على عذاب الله. أرأيتكم يطلبه منصوباً، وفعل الشرط يطلبه مرفوعاً، فأعمل الثاني، وهذا البحث يتقرر هنا أيضاً، فمفعول أرأيتكم محذوف والتقدير : أرأيتكم البينة من ربي إن كنت عليها أنلزمكموها ؟ فهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لقوله : أرأيتم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه أرأيتم، وجيء بالضميرين متصلين في أنلزمكموها، لتقدّم ضمير الخطاب على ضمير الغيبة، ولو انعكس لانفصل ضمير الخطاب خلافاً لمن أجاز الاتصال. قال الزمخشري : ويجوز أن يكون الثاني منفصلاً
٢١٦
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٩٨


الصفحة التالية
Icon