قال الزمخشري : نادى الأرض والسماء بما ينادي به الإنسان المميز على لفظ التخصيص، والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات وهو قوله : يا أرض ويا سماء، ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله : ابلعي ماءك وأقلعي، من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأنّ السموات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء، غير ممتنعة عليه كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوا عظمته وجلاله وثوابه وعقابه، وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له، وهم يهابونه ويفرعون من التوقف دون الامتثال له والنزول عن مشيئته على الفور من غير ريب. فكما يرد عليهم أمره كان المأمور به مفعولاً لا حبس ولا بطء. وبسط الزمخشري وذيل في هذا الكلام الحسن، قال الحسن : يدل على عظمة هذه الأجسام، والحق تعال مستول عليها متصرف فيها كيف يشاء، وأراد فصار ذلك سبباً لوقوف القوة العقلية على كمال جلال الله تعالى وعلوّ قدرته وهيبته انتهى. وبناء الفعل في وقيل وما بعدها للمفعول أبلغ في التعظيم والجبروت وأخصر. قال الزمخشري : ومجيء أخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء، وأن تلك الأمور العظام لا يكون إلا بفعل فاعل قادر، وتكوين مكون قاهر، وأن فاعل هذه الأفعال فاعل واحد لا يشارك في أفعاله، فلا يذهب الوهم إلى أن يقول غيره يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، ولا أن يقضي ذلك الأمر الهائل غيره، ولا أت تستوي السفينة عل الجودي وتستقر عليه إلا بتسويته وإقراره. ولما ذكرناه من المعاني والنكت واستفصح علماء البيان هذه الآية ورقصوا لها رؤوسهم، لا لتجانس الكلمتين وهما قوله : ابلعي واقلعي، وذلك وأن كان الكلام لا يخلو من حسن، فهو كغير الملتفت إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللب، وما عداها قشور انتهى. وأكثره خطابة، وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية، وعلى هذا جمهور الحذاق. وقيل : إن الله تعالى أحدث فيهما إدراكاً وفهماً لمعاني الخطاب. وروي أن أعرابياً سمع هذه الآية فقال : هذا كلام القادرين، وعارض ابن المقفع القرآن فلما وصل إلى هذه الآية أمسك عن المعارضة وقال : هذا كلام لا يستطيع أحد من البشر أن يأتي بمثله. وقال ابن عباس في قوله : وقضي الأمر، غرق من غرق، ونجا من نجا. وقال مجاهد : قضي الأمر بهلاكهم، وقال ابن قتيبة، قضي الأمر فرغ منه، وقال ابن الأنباري : أحكمت هلكة قوم نوح، وقال الزمخشري : أنجز ما وعد الله نوحاً من هلاك قومه. واستوت أي استقرت السفينة على الجودي، واستقرارها يوم عاشوراء من المحرّم قاله : ابن عباس، والضحاك. وقيل : يوم
٢٢٨
الجمعة، وقيل : في ذي الحجة. وأقامت على الجوي شهراً، وهبط بهم يوم عاشوراء. وذكروا أن الجبال تطاولت وتخاشع الجودي. وحديث بعث نوح عليه السلام الغراب والحمامة ليأتياه بخبر كمال الغرق الله أعلم بما كان من ذلك.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٢٣
وقرأ الأعمش وابن أبي عبلة على الجودي بسكون الياء مخففة. قال ابن عطية : وهما لغتان، وقال صاحب اللوامح : هو تخفيف ياءي النسب، وهذا التخفيف بابه الشعر لشذوذه، والظاهر أن قوله : وقيل بعداً من قول الله تعالى كالأفعال السابقة، وبنى الجميع للمفعول للعلم بالفاعل، وقيل : من قول نوح والمؤمنين، قيل : ويحتمل أن يكون من قول الملائكة، قيل : ويحتمل أن يكون ذلك عبارة عن بلوغ الأمر ذلك المبلغ وإن لم يكن، ثم قول محسوس. ومعنى بعد إهلاكاً يقال : بعد يبعد بعداً وبعداً إذا هلك، واللام في للقوم من صلة المصدر. وقيل : تتعلق بقوله : وقيل، والتقدير وقيل لأجل الظالمين، إذ لا يمكن أن يخاطب الهالك إلا على سبيل المجاز. ومعنى ونادى نوح ربه أي : أراد أن يناديه، ولذلك أدخل الفاء، إذ لو كان أراد حقيقة النداء والأخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال : ولسقطت كما لم تدخل في قوله :﴿إِذْ نَادَى رَبَّه نِدَآءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ﴾ والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضاً، وذلك أن هذه القصة كانت أول ما ركب نوح السفينة، ويظهر من كلام الطبري أن ذلك من بعد غرق الابن. وفي قوله : إن ابني من أهلي، ظهور أنه ولده لصلبه. ومعنى من أهلي أي : الذي أمرت أن أحملهم في السفينة لقوله :﴿احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ﴾ ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه الله بقوله : إلا من سبق عليه القول منهم لظنه أنه مؤمن وعموم قوله : ومن آمن يشمل من آمن من أهله ومن غير أهله، وحسن الخطاب بقوله : وإن وعدك الحق، أي الوعد الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أهلي، وأنت أعلم الحكام وأعدلهم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٢٣


الصفحة التالية
Icon