﴿قَالُوا يَـاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءَالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُواءٍا قَالَ إِنِّى أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّى بَرِى ءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِا فَكِيدُونِى جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنظِرُونِ * إِنِّى تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلا هُوَ ءَاخِذُا بِنَاصِيَتِهَآا إِنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ : ببينة أو بحجة واضحة تدل على صدقك، وقد كذبوا في ذلك وبهتوه كما كذبت قريش في قولهم :﴿لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ ءَايَةٌ مِّن رَّبِّهِا﴾ وقد جاءهم بآيات كثيرة، أو لعمائهم عن الحق وعدم نظرهم في الآيات اعتقدوا ما هو آية ليس بآية فقالوا : ما جئتنا ببينة تلجئنا إلى الإيمان، وإلا فهود وغيره من الأنبياء لهم معجزات وإن لم يعين لنا بعضها. ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم :﴿مِّنَ الايَـاتِ مَا فِيهِ﴾ وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل : صادرين عن قولك، قاله الزمخشري. وقيل : عن للتعليل كقوله تعالى :﴿إِلا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ﴾ فتتعلق بتاركي، كأنه قيل لقولك، وقد أشار إلى التعليل والسبب فيها ابن عطية، فقال : أي لا يكون قولك سبباً لتركنا، إذ هو مجرد عن آية، والجملة بعدها تأكيد وتقنيط له من دخولهم في دينه، ثم نسبوا ما صدر منه من دعائهم إلى الله وإفراده بالألوهية إلى الخبل والجنون، وأن ذلك مما اعتراه به بعض آلهتهم لكونه سبها وحرض على تركها ودعا إلى ترك عبادتها، فجعلته يتكلم مكافأة بما يتكلم به المجانين، كما قالت قريش : معلم مجنون ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِا جِنَّةُا﴾ واعتراك جملة محكية بنقول، فهي في موضع المفعول، ودلت على بله شديد وجهل مفرط، حيث اعتقدوا في حجارة أنها تنتصر وتنتقم. وقول هود لهم في جواب ذلك : إني أشهد الله إلى آخره، حيث تبرأ من آلهتهم، وحرضهم كلهم مع انفراده وحده على كيده بما يشاؤون، وعدم تأخره من أعظم الآيات على صدقه وثقته بموعود ربه من النصر له، والتأييد والعصمة من أن ينالوه بمكروه، هذا وهم حريصون على قتله يرمونه عن قوس واحدة. ومثله قول نوح لقومه :﴿ثُمَّ اقْضُوا إِلَىَّ وَلا تُنظِرُونِ﴾ وأكد براءته من آلهتهم وشركهم، ووفقها بما جرت عليه عادة الناس من توثيقهم الأمر بشهادة الله وشهادة العباد.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٢٣
قال الزمخشري :(فإن قلت) : هلا قيل : إني أشهد الله وأشهدكم (قلت) : لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بدينهم ودلالة على قلة المبالاة بهم فحسب، فعدل به
٢٣٣
عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة انتهى. وإني بريء تنازع فيه أشهد واشهدوا، وقد يتنازع المختلفان في التعدي الاسم الذي يكون صالحاً، لأن يعملا فيه تقول أعطيت زيداً ووهبت لعمرو ديناراً، كما يتنازع اللازم والمتعدي نحو : قام وضربت زيداً. وما في ما تشركون موصولة، إما مصدرية، وإما بمعنى الذي أي : بريء من إشراككم آلهة من دونه، أو من الذين تشركون، وجميعاً حال من ضمير كيدوني الفاعل، والخطاب إنما هو لقومه. وقال الزمخشري : أنتم وآلهتكم انتهى. قيل : ومجاهرة هود عليه السلام لهم بالبراءة من أديانهم، وحضه إياهم على كيده هم وأصنامهم معجزة لهود، أو حرض جماعتهم عليه مع انفراده وقوتهم وكثرتهم، فلم يقدروا على نيله بسوء، ثم ذكر توكله عل الله معلماً أنه ربه وربهم، ومنبهاً على أنه من حيث هو ربكم يجب عليكم أن لا تعبدوا إلا إياه، ومفوضاً أمره إليه تعالى ثقة بحفظه وانجاز موعوده، ثم وصف قدرة الله تعالى وعظيم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه، فأنتم من جملة أولئك المقهورين. وقوله : آخذ بناصيتها تمثيل، إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته، كما يقاد الأسير والفرس بناصيته، حتى صار الأخذ بالناصية عرفاً في القدرة على الحيوان، وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه علامة أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته. قال ابن جريج : وخص الناصية لأن العرب إذا وصفت إنساناً بالذلة والخضوع قالت : ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي أنه مطيع له يصرفه كيف يشاء ثم أخبر أنّ أفعاله تعالى في غاية الإحكام، وعلى طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده من توكل عليه، قوله الصدق، ووعده الحق.