ووجه مناسبتها لما قبلها وارتباطها أن في آخر السورة التي قبلها :﴿وَكُلا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنابَآءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِا فُؤَادَكَ﴾ وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقى الأنبياء من قومهم، فاتبع ذلك بقصة يوسف، وما لاقاه من أخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصل للرسول صلى الله عليه وسلّم التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب. وجاءت هذه القصة مطولة مستوفاة، فلذلك لم يتكرر في القرآن إلا ما أخبر به مؤمن آل فرعون في سورة غافر. والإشارة بتلك آيات إلى الر وسائر حروف المعجم التي تركبت منها آيات القرآن، أو إلى التوراة والإنجيل، أو الآيات التي ذكرت في سورة هود، أو إلى آيات السورة. والكتاب المبن السورة أي : تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة أقوال. والظاهر أنّ المراد بالكتاب القرآن. والمبين إما البين في نفسه الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم، وإما المبين الحلال والحرام والحدود والأحكام وما يحتاج إليه من أمر الدين، قاله : ابن عباس ومجاهد، أو المبين الهدى والرشد والبركة قاله قتادة، أو المبين ما سألت عنه اليهود، أو ما أمرت أن يسأل من حال انتقال يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف، أو المبين من جهة بيان اللسان العربي وجودته، إذ فيه ستة أحرف لم تجمع في لسان، روي هذا عن معاذ بن جبل. قال المفسرون : وهي الطاء، والظاء، والضاد، والصاد، والعين، والخاء انتهى. والضمير في إنا أنزلناه، عائد على الكتاب الذي فيه قصة يوسف، وقيل : على القرآن، وقيل : على نبأ يوسف، قاله الزجاج وابن الأنباري. وقيل : هو ضمير الإنزال. وقرآناً هو المطعوف به، وهذان ضعيفان. وانتصب قرآناً، قيل : على البدل من الضمير، وقيل على الحال الموطئة. وسمي القرآن قرآناً لأنه اسم جنس يقع على القليل والكثير، وعربياً منسوب إلى العرب. والعرب جمع عربي، كروم ورومي، وعربة ناحية دار إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام. قال الشاعر :
وعربة أرض ما يحل حرامهامن الناس إلا اللوذعي الحلاحل
ويعني النبي صلى الله عليه وسلّم أحلت له مكة. وسكن راء عربة الشاعر ضرورة. قيل : وإن شئت نسبت القرآن إليها ابتداء أي : على لغة أهل هذه الناحية. لعلكم تعقلون ما تضمن من المعاني، واحتوى عليه من البلاغة والإعجاز فتؤمنون، إذ لو كان بغير العربية لقيل :﴿لَوْلا فُصِّلَتْ ءَايَـاتُهُا ﴾.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٧٥
﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا الْقُرْءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِا لَمِنَ الْغَـافِلِينَ * إِذْ قَالَ يُوسُفُ لابِيهِ يَـا أَبَتِ إِنِّى رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِى سَـاجِدِينَ * قَالَ يَـابُنَىَّ لا تَقْصُصْ رُءْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَـانَ لِلانسَـانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَكَذالِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الاحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَه عَلَيْكَ وَعَلَى ءَالِ يَعْقُوبَ كَمَآ أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ﴾ : القصص : مصدر قص، واسم مفعول إما لتسميته بالمصدر، وأما لكون الفعل يكون للمفعول، كالقبض والنقص. والقصص هنا يحتمل الأوجه الثلاثة. فإن كان المصدر فالمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة، وأحسن أسلوب. ألا ترى أنّ هذا الحديث مقتص في كتب الأولين، وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارباً لاقتصاصه في القرآن، وإن كان المفعول فكان أحسنه لما يتضمن من العبر والحكم والنكت والعجائب التي ليستفي غيره. والظاهر أنه أحسن ما يقص في بابه كما يقال للرجل : هو أعلم الناس وأفضلهم، يراد في فنه.
وقيل : كانت هذه السورة أحسن القصص لانفرادها عن سائرها بما فيها من ذكر الأنبياء، والصالحين، والملائكة، والشياطين، والجن، والإنس، والأنعام، والطير، وسير الملوك، والممالك، والتجار، والعلماء، والرجال، والنساء وكيدهن ومكرهن، مع ما فيها من ذكر التوحيد، والفقه، والسير، والسياسة، وحسن الملكة، والعفو عند المقدرة، وحسن المعاشرة، والحيل، وتدبير المعاش، والمعاد، وحسن العاقبة، في العفة، والجهاد، والخلاص من المرهوب إلى المرغوب، وذكر الحبيب والمحبوب، ومرأى السنين وتعبير الرؤيا، والعجائب التي تصلح للدين والدنيا. وقيل : كانت أحسن القصص لأنّ كل من ذكر فيها
٢٧٨


الصفحة التالية
Icon