هكذا قاله النحاة والمفسرون، إلا من أجاز أن تكون الجملة فاعلة، فإنه زعم أن قوله : ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي : سجنه حتى حين، والرد على هذا المذهب مذكور في علم النحو. والذي أذهب إليه أن الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله : ليسجنن، أو من قوله : السجن على قراءة الجمهور، أو على السجن على قراءة من فتح السين. والضمير في لهم للعزيز وأهله، والآيات هي : الشواهد الدالة على براءة يوسف. قال مجاهد وغيره : قد القميص، فإن كان الشاهد طفلاً فهي آية عظيمة، وإن كان رجلاً فيكون استدلالاً بالعادة. والذي يظهر أنّ الآية إنما يعبر بها عن الواضح الجلي، وجمعها يدل على ظهور أمور واضحة دلت على براءته، وقد تكون الآيات التي رأوها لم ينص على جميعها في القرآن، بل رأوا قول الشاهد. وقد القميص وغير ذلك مما لم يذكره. وأما ما ذكره عكرمة أن من الآيات خمش وجهها، والسدي من حز أيديهن، فليس في ذلك دلالة على البراءة فلا يكون آية وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين. وقرأ الحسن : لتسجننه بالتاء على خطاب بعضهم العزيز ومن يليه، أو العزيز وحده على وجه التعظيم. وقرأ ابن مسعود : عتى بإبدال حاء حتى عيتا، وهي لغة هذيل. وأقرأ بذلك فكتب إليه يأمره أن يقرىء بلغة قريش حتى لا بلغة هذيل، والمعنى : إلى زمان. والحبن يدل على مطلق الوقت، ومن عين له هنا زماناً فإنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف، لا أنه موضوع في اللغة كذلك، وكأنها اقترحت زماناً حتى تبصر ما يكون منه. وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء، واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها، وعشقه لها، وجعله زمام أمره بيدها، هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف. روي أنه لما امتنع يوسف من المعصية، ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها : إن هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس، وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره، وأنا محبوسة محجوبة، فأما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته، وإلا حبسته كما أنا محبوسة، فحينئذ بدا لهم سجنه، قال ابن عباس : فأمر به فحمل على حمار، وضرب بالطبل، ونودي عليه في أسواق مصر أنّ يوسف العبراني أراد سيدته، فهذا جزاؤه أن يسجن. قال أبو صالح : ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكي.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢٩٩
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِا قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الاخَرُ إِنِّى أَرَانِى أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِى خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْه نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِا إِنَّا نَرَاكَ مِنَ﴾ : في الكلام حذف تقديره : فسجنوه، فدخل معه السجن غلامان. وروي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان، أحدهما خبازه، والآخر ساقيه. وروي أن الملك اتهمهما بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي، فسجنهما قاله : السدي. ومع تدل على الصحبة واستحداثها، فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة. ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله، وكان يسلي حزينهم، ويعود مريضهم، ويسال لفقيرهم، ويندبهم إلى الخير، فأحبه الفتيان ولزمان، وأحبه صاحب السجن والقيم عيه وقال له : كن في أي البيوت شيئت فقال له يوسف : لا تحبني يرحمك الله، فلقد أدخلت على المحبة مضرات، أحبتني عمتي فامتحنت بمحبتها، وأحبني أبي فامتحنت بمحبته، وأحبتني امرأة العزيز فامتحنت بمحبتها بما ترى. وكان يوسف عليه السلام قد قال لأهل السجن : إني أعبر الرؤيا وأجيد. وروي أن الفيتين قالا له إنا لنحبك من حين رأيناك فقال : أنشدكما الله أنْ لا تحباني، وذكر ما تقدم. وعن قتادة : كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم، فجعل يقول : اصبروا وابشروا تؤجروا أن لهذا لأجراً فقالوا : بارك الله عليك، ما أحسن وجهك، وما أحسن خلقك لقد بورك لنا في جوارك فمن أنت يا فتى ؟ قال يوسف : ابن صفي الله يعقوب، ابن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله ابراهيم. فقال له عامل السجن : لو استطعت خليت سبيلك.


الصفحة التالية
Icon