﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِى بِهِا أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِى فَلَمَّا كَلَّمَه قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِى عَلَى خَزَآاِنِ الارْضِا إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَالِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِى الارْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُا نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَآءُا وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاجْرُ الاخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ ءَامَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ : روي أن الرسول جاءه فقال : أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات. وكتب على باب السجن : هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثياباً جدداً، فلما دخل على الملك قال : اللهم إني أسألك يخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال : ما هذا اللسان ؟ فقال : لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لساناً فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال : أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال : رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن، وما كان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفاً، وقال له : من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك. وكان يوسف قصد أولاً بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فكان استدعاء الملك إياه أولاً بسبب علم الرؤيا، فلذلك قال : ائتوني به فقط، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجوده نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده، فطلبه ثانياً ومقصوده : استخلاصه لنفسه. ومعنى أستخلصه : أجعله خالصاً لنفسي وحاصاً بي، وسمى الله فرعون مصر ملكاً إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، فلو كان حياً لكان حكماً له إذا قيل لكافر ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلّم إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكاً ولا أميراً، لأن ذلك حكم. والجواب مسلم وتسلموا. وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيف ما تقلب. وفي الكلام حذف التقدير : فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به، فأراد رؤيته وقال : ائتنوني به، فلما كلمه. والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي : فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته. ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي : فلما كلم يوسف الملك، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر الخبر، والمرء مخبوء تحت لسانه، قال : إنك اليوم لدينا مكين أي : ذو مكانة ومنزلة، أمين مؤتمن على كل شيء. وقيل : أمين آمين، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام، وبالأمن يحط من إكرام يوسف. ولما وصفه الملك بالتمكن عنده، والأمانة، طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين فقال : اجعلني على خزائن الأرض أي : ولني خزائن أرضك إني حفيظ أحفظ ما تستحفظه، عليم بوجوه التصرف. وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه، إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة، ولا خلل معهما لقائل. وقيل : حفيظ للحساب، عليم بالألسن. وقيل : حفيظ لما استودعتني، عليم بسني الجوع. وهذا التخصيص لا وجه له، ودلّ إثناء يوسف على نفسه أنه يجوز للإنسان أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره، ولا يكون ذلك التزكية المنهي عنها. وعلى جواز عمل الرجل الصالح للرجل التاجر بما يقتضيه الشرع والعدل، لا بما يختاره ويشتهيه مما لا يسيغه الشرع، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء حكم الله، وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن غيره لا يقوم مقامه في ذلك. فإنْ كان الملك قد أسلم كما روى مجاهد فلا كلام، وإن كان كافراً ولا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكينه، فللمتولي أن يستظهر به. وقيل : كان الملك يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى،
٣١٩
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣١٣


الصفحة التالية
Icon