وليعقوب عليه السلام بهذا الموضع مسجد تحت جبل. يقال : بداً القوم بدوا، إذا أتوا بدا كما يقال : غاروا غوراً. إذ أتوا الغور. والمعنى : وجاء بكم من مكان بدا، ذكره القشيري، وحكاه الماوردي عن الضحاك، وعن ابن عباس. وقابل يوسف عليه السلام نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو، والإشارة بذلك إلى الاجتماع بابيه وأخوته، وزوال حزن أبيه. ففي الحديث :﴿مَّن يُرَدُّ﴾ من بعد أن نزغ أي أفسد، وتقدم الكلام على نزع، وأسند النزع إلى الشيطان لأنه الموسوس كما قال :﴿هَـاذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّـالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَـانُ عَنْهَا﴾ وذكر هذا القدر من أمر أخوته، لأنّ النعمة إذا جاءت إثر شدة وبلاء كانت أحسن موقعاً. إن ربي لطيف، أي : لطيف التدبير لما يشاء من الأمور، رفيق. ومن في قوله من الملك، وفي من تأويل للتبعيض، لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا، ولا علمه إلا بعض التأويل. ويبعد قول من جعل من زائدة، أو جعلها البيان الجنس، والظاهر أن الملك هنا ملك مصر. وقيل : ملك نفسه من إنفاذ شهوته. وقال عطاء : ملك حساده بالطاعة، ونيل الأماني من الملك. وقرأ عبد الله، وعمرو بن ذر : آتيتن، وعلمتن بحذف الياء منهما اكتفاء بالكسرة عنهما، مع كونهما ثابتتين خطاً. وحكى ابن عطية عن ابن ذرانة : قرأ رب آتيتني بغير قد، وانتصب فاطر على الصفة، أو على النداء. وأنت وليي تتولاني بالنعمة في الدارين، وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي. وذكر كثير من المفسرين أنه لما عد نعم الله عنده تشوق إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه، ورأى أنّ الدنيا كلها فانية فتمنى الموت. وقال ابن عباس : لم يتمن الموت حي غير يوسف، والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت، وإنما عدد نعمه عليه، ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي : توفني إذا حان أجلي على الإسلام، واجعل لحاقي بالصالحين. وإنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت، والصالحين أهل الجنة أو الأنبياء، أو آباؤه إبراهيم وإسحاق ويعقوب. وعلماء التاريخ يزعمون أنّ يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام، وله من الولد : افراثيم، ومنشا، ورحمة زوجة أيوب عليه السلام. قال الذهبي : وولد لافراثيم نون، ولنون يوشع، وهو فتى موسى عليه السلام. وولد لمنشأ موسى، وهو قبل موسى بن عمران عليه السلام. ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر، وكان ابن عباس ينكر ذلك. وثبت في الصحيح أن صاحب الخضر هو موسى بن عمران، وتوارثت الفراعنة ملك مصر، ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام إلى أن بعث موسى عليه السلام.
٣٤٩
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٣٩
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنابَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَا وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ * وَمَآ أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْـاَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِّلْعَـالَمِينَ * وَكَأَيِّن مِّنْ ءَايَةٍ فِى السَّمَـاوَاتِ وَالارْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلا وَهُم مُّشْرِكُونَ * أَفَأَمِنُوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَـاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ﴾ قال ابن الأنباري : سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحاً وافياً، وأمل أن يكون ذلك سبباً لإسلامهم، فخالفوا تأميله، فعزاه الله تعالى بقوله : وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين الآيات. وقيل : في المنافقين، وقيل : التوبة، وقيل : في النصارى. وقال ابن عباس : في تلبية المشركين. وقيل : في أهل الكتاب آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فجمعوا بين الإيمان والشرك. والإشارة بذلك إلى ما قصه الله من قصة يوسف وإخوته. وما كنت لديهم أي : عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب، ولا حين ألقوه فيه، ولا حين التقطته السيارة، ولا حين بيع. وهم يمكرون أي يبغون الغوائل ليوسف، ويتشاورون فيما يفعلون به. أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخاً بالدم، وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وهذا النوع من علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري، وبعضهم يسميه المذهب الكلامي، وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج، وتقدم نظير ذلك في آل عمران، وفي هود. وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه، لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من حملة هذا الحديث وأشباهه، ولا لقي فيها أحداً ولا سمع منه، ولم يكن من علم قومه، فإذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهة في أنه ليس منه، وإنما هو من جهة القرون الخالية ونحوه
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٥٠