وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية للناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى فيه، وإن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً يثبت الماء في منافعه، وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكثر، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب. وقال ابن عطية : صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله تعالى، وإقامة الحجة على الكفرة به، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالاً للحق والباطل، والإيمان والكفر، والشك في الشرع واليقين به انتهى. وقيل : هذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن، والقلوب، والحق، والباطل. فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب، وبقاء الشرع والدين والأودية مثل للقلوب، ومعنى بقدرها على سعة القلوب وضيقها، فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه، فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه، ومنها دون ذلك بطبقة، ومنها دونه بطبقات. والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين إنه كلام الله، ودفعهم إياه بالباطل. والماء الصافي المنتفع به مثل الحق انتهى. وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله صلى الله عليه وسلّم :"مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثلما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" وقال ابن عطية : وروي عن ابن عباس أنه قال : قوله تعالى أنزل من السماء ماء، يريد به الشرع والدين، فسالت أودية يريد القلوب، أي : أخذ النبيل بحظه، والبليد بحظه، وهذا قول لا يصح والله أعلم عن ابن عباس، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز، وقد تمسك به الغزالي وأهل تلك الطريق، ولا توجيه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير علة تدعو إلى ذلك، والله الموفق للصواب. وإن صح هذا القول عن ابن عباس، فإنما قصد أن قوله تعالى :﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَـاطِلَ﴾، معناه : الحق الذي يتقرر في القلوب، والباطل الذي يعتريها أيضاً انتهى. والماء المطر. ونكر أودية لأنّ المطر إنما يدل على طريق المناوبة، فتسيل بعض الأودية دون بعض. ومعنى بقدرها أي : على قدر صغرها وكبرها، أو بما قدر لها من الماء بسبب نفع الممطور عليهم لا ضررهم. ألا ترى إلى قوله : وأما ما ينفع الناس، فالمطر مثل للحق، فهو نافع خال من الضرر.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٥٦
وقرأ الجمهور : بقدرها بفتح الدال. وقرأ الأشهب العقيلي، وزيد بن علي، وأبو عمرو في رواية : بسكونها. وقال الحوفي : بقدرها متعلق بسالت. وقال أبو البقاء : بقدرها صلة لا ودية، وعرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل، والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة، ولذلك تضمن إذا عاد ما دل عليه الفعل من المصدر نحو : من كذب كان شراً له أي : كان الكذب شراً له، ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر المفهوم من فسالت. واحتمل بمعنى حمل، جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر. ورابياً منتفخاً عالياً على وجه السبيل، ومنه الربوة. ومما توقدون عليه أي : ومن الأشياء الت توقدون عليها وهي الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والقصدير، ونحوها مما يوقد عليه وله زبد. وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وابن محيصن، ومجاهد، وطلحة، ويحيى، وأهل الكوفة : يوقدون بالياء على الغيبة، أي يوقد الناس. وقرأ باقي السبعة والحسن، وأبو جعفر، والأعرج، وشيبة : بالتاء على الخطاب
٣٨١


الصفحة التالية
Icon