الإعراب. وتأول قوم على القرآن مثل مقحم، وأنّ التقدير : الجنة التي وعد المتقون تجري، وإقحام الأسماء لا يجوز. وحكوا عن الفراء أنّ العرب تقحم كثيراً المثل والمثل، وخرج على ذلك :﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِا شَىْءٌ﴾ أي : كهو شيء. فقال غيرهما : الخبر تجري، كما تقول : صفة زيد اسمر، وهذا أيضاً لا يصح أن يكون تجري خبراً عن الصفة، وإنما يتأول تجري على إسقاط أنْ ورفع الفعل، والتقدير : أنْ تجري خبر ثان الأنهار. وقال الزجاج : معناه مثل الجنة جنة تجري على حذف الموصوف تمثيلاً لما غاب عنا بما نشاهد انتهى. وقال أبو علي : لا يصح ما قال الزجاج، لا على معنى الصفة، ولا على معنى الشبه، لأن الجنة التي قدرها جنة ولا تكون الصّفة، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة التي بين المتماثلين وهو حدث، والجنة جنة فلا تكون المماثلة. وقرأ علي وابن مسعود : مثال الجنة على الجمع أي : صفاتها. وفي اللوامح على السلمى أمثال الجنة جمع، ومعناه : صفات الجنة. وذلك لأنها صفات مختلفة، فلذلك جمع نحو الحلقوم والإسعال. والأكل ما يؤكل فيها، ومعنى دوامه : أنه لا ينقطع أبداً، كما قال تعالى :﴿لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ﴾ وقال إبراهيم التيمي : أي لذاته دائمة لا تزاد بجوع ولا تمل من شبع. وظلها أي : دائم البقاء والراحة، لا تنسخه شمس، ولا يميل لبرد كما في الدنيا. أي : تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا أي : اجتنبوا الشرك.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٣
﴿وَالَّذِينَ ءَاتَيْنَـاهُمُ الْكِتَـابَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَا وَمِنَ الاحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُا قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا﴾ : نزلت في مؤمني أهل الكتابين، ذكره الماوردي، واختاره الزمخشري فقال : من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما، ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلاً : أربعون من نجران، وثمانية من اليمنن، وإثنان وثلاثون من الحبشة. ومن الأحزاب يعني : ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالعداوة نحو : كعب بن الأشرف وأصحابه، والسيد والعاقب أسقفي نجران وأشياعهما، من ينكر بعضه لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم غير محرف، وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام، ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم مما حرفوه وبدلوه انتهى. وعن ابن عباس، وابن زيد : في مؤمني اليهود كعبد الله بن سلام وأصحابه، وعن قتادة في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلّم، مدحهم الله تعالى بأنهم يسرون بما أنزل إليك من أمر الدين. وعن مجاهد، والحسن، وقتادة : أن المراد بأهل الكتاب جميعهم يفرحون بما أنزل من القرآن، إذ فيه تصديق كتبهم، وثناء على أنبيائهم وأحبارهم ورهبانهم الذين هم على دين موسى وعيسى عليهما السلام. وضعف هذا القول بأنّ همهم به أكثر من فرحهم، فلا يعتد بفرحهم. وأيضاً فإنّ اليهود والنصارى ينكرون بعضه، وقد قذف تعالى بين الذين ينكرون بعضه وبين الذين آتيناهم الكتاب. والأحزاب قال مجاهد : هم اليهود، والنصارى، والمجوس. وقالت فرقة : هم أحزاب الجاهلية من العرب. وقال مقاتل : الأحزاب بنو أمية، وبنو المغيرة، وآل أبي طلحة. ولما كان ما أنزل إليه يتضمن عبادة الله ونفي الشريك، أمر بجواب المنكرين، فقيل له : قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، فإنكاركم لبعض القرآن الذي أنزل لعبادة الله وتوحيده، وأنتم تدعون
٣٩٦
وجوب العبادة ونفي الشريك إليه، أدعوا إلى شرعه ودينه، وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة في جميع أحوالي في الدنيا والآخرة. وقرأ أبو جليد عن نافع : ولا أشرك بالرفع على القطع أي : وأنا لا أشرك به. وجوز أن يكون حالاً أي : أنْ أعبد الله غير مشرك به. وكذلك أي : مثل إنزالنا الكتاب على الأنبياء قبلك، لأن قوله : والذين آتيناهم الكتاب، يتضمن إنزاله الكتاب، وهذا الذي أنزلناه هو بلسان العرب، كما أن الكتب السابقة بلسان من نزلت عليه :﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِا لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ وأراد بالحكم أنه يفصل بين الحق والباطل ويحكم. وقال ابن عطية : وقوله وكذلك المعنى : كما يسرنا لهؤلاء الفرح ولهؤلاء الإنكار لبعض كذلك أنزلناه حكماً عربياً انتهى. وانتصب حكماً على الحال من ضمير النصب في أنزلناه، والضمير عائد على القرآن، والحكم ما تضمنه القرآن من المعاني. ولما كانت العبارة عنه بلسان العرب نسبه إليها. ولئن اتبعت : الخطاب لغير الرسول صلى الله عليه وسلّم، لأنه معصوم من اتباع أهوائهم. وقال الزمخشري : هذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب فيه. أن لا يزال زال عند الشبه بعد استمساكه بالحجة، وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم من شدة الشكيمة بمكان.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٨٣


الصفحة التالية
Icon