فلو جاء على الكثير لكان التركيب : والمؤمن الطير العائذات، وارتفع ويل على الابتداء، وللكافرين خبره. لما تقدم ذكره الظلمات دعا بالهلكة على من لم يخرج منها، ومن عذاب شديد في موضع الصفة لويل. ولا يضر الفصل والخبر بين الصفة والموصوف، ولا يجوز أن يكون متعلقاً بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به بالخبر. ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة. قال : فإن قلت : ما وجه اتصال قوله من عذاب شديد بالويل ؟ قلت : لأن المعنى أنهم يولون من عذاب شديد ويضجون منه، ويقولوزن يا ويلاه كقوله :﴿دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾ انتهى. وظاهره يدل على تقديره عامل يتعلق به من عذاب شديد، ويحتمل هذا العذاب أن يكون واقعاً بهم في الدنيا، أو واقعاً بهم في الآخرة. والاستحباب الإيثار والاختيار، وهو استفعال من المحبة، لأنّ المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر. ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب وأجاب، ولما ضمن معنى الإيثار عدي بعلى. وجوزوا في إعراب الذين أن يكون مبتدأ خبره أولئك في ضلال بعيد، وأن يكون معطوفاً على الذم، إما خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين، وإما منصوباً بإضمار فعل تقديره أذم، وأن يكون بدلا، وأن يكون صفة للكافرين. ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء، وهو لا يجوز، لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله : من عذاب شديد، سواء كان من عذاب شديد في موضع الصفة لويل، أم متعلقاً بفعل محذوف أي : يضجون ويولولون من عذاب شديد. ونظيره إذا كان صفة أن تقول : الدار لزيد الحسنة القرشي، فهذا التركيب لا يجوز، لأنك فصلت بين زيد وصفته بأجنبي منهما وهو صفة الدار، والتركيب الفصيح أن تقول : الدار الحسنة لزيد القرشي، أو الدار لزيد القرشي الحسنة وقرأ الحسن : ويصدون مضارع أصد، الداخل عليه همزة النقل من صد اللازم صدوداً. وتقدم الكلام عل قوله تعالى :﴿وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ﴾ في آل عمران، وعلى وصف الضلال بالبعد قوله عز وجل :
﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِا لِيُبَيِّنَ لَهُم فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
٤٠٤
سبب نزولها أنّ قريشاً قالوا : ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي ؟ فنزلت. وساق قصة موسى أنه تعالى أرسله إلى قومه بلسانه، أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور، كما أرسلك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور. والظاهر أن قوله : وما أرسلنا من رسول، العموم فيندرج فيه الرسول عليه الصلاة والسلام. فإن كانت الدعوة عامة للناس كلهم، أو اندرج في اتباع ذلك الرسول من ليس من قومه، كان من لم تكن لغته لغة ذلك النبي موقوفاً على تعلم تلك اللغة حتى يفهمها، وأن يرجع في تفسيرها إلى من يعلمها. وقيل : في الكلام حذف تقديره : وما أرسلنا من رسول قبلك إلا بلسان قومه، وأنت أرسلناك للناس كافة بلسان قومك، وقومك يترجمون لغيرهم بألسنتهم، ومعنى بلسان قومه : بلغة قومه.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٠٢