وكنى بسميع الدعاء عن الإجابة والتقبل، وكان قد دعا الله أن يهبه ولداً بقوله :﴿رَبِّ هَبْ لِى مِنَ الصَّـالِحِينَ﴾ فحمد الله على ما وهبه من الولد وأكرمه به من إجابة دعائه. والظاهر إضافة سميع إلى المفعول وهو من إضافة المثال الذي على وزن فعيل إلى المفعول، فيكون إضافة من نصب، ويكون ذلك حجة على إعمال فعيل الذي للمبالغة في المفعول على ما ذهب إليه سيبويه، وقد خالف في ذلك جمهور البصريين، وخالف الكوفيون فيه. وفي إعمال باقي الخمسة الأمثلة فعول، وفعال، ومفعال، وفعل، وهذا مذكور في علم النحو. ويمكن أن يقال في هذا ليس ذلك إضافة من نصب فيلزم جواز إعماله، بل هي إضافة كإضافة اسم الفاعل في نحو : هذا ضارب زيد أمس. وقال الزمخشري : ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله، ويجعل دعاء الله سميعاً على الإسناد المجازي، والمراد : سماع الله انتهى. وهو بعيد لاستلزامه أن يكون من باب السفة المشبهة، والصفة متعدية، ولا يجوز ذلك إلا عند أبي علي الفارسي حيث لا يكون لبس. وأما هنا فاللبس حاصل، إذ الظاهر أنه من إضافة المثال للمفعول، لا من إضافته إلى الفاعل. وإنما أجاز ذلك الفارسي في مثل : زيد ظالم العبيد إذا علم أنّ له عبيداً ظالمين. ودعاؤه بأنْ يجعله مقيم الصلاة وهو مقيمها، إنما يريد بذلك الديمومة. ومن ذريتي، من للتبعيض، لأنه أعلم أنّ من ذريته من يكون كافراً، أو من يهمل إقامتها وإن كان مؤمناً. وقرأ طلحة، والأعمش : دعاء ربنا بغير ياء. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو : بياء ساكنة في الوصل، وأثبتها بعضهم في الوقف. وروي ورش عن نافع : إثباتها في الوصل. والظاهر أنّ إبراهيم سأل المغفرة لأبويه القريبين، وكانت أمه مؤمنة، وكان والده لم ييأس من إيمانه ولم تتبين له عداوة الله، وهذا يتمشى إذا قلنا : إن هذه الأدعية كانت في أوقات مختلفة، فجمع هنا أشياء مما كان دعا بها. وقيل : أراد أمه، ونوحاً عليه السلام. وقيل : آدم وحواء. والأظهر القول الأول. وقد جاء نصاً دعاؤه لأبيه بالمغفرة في قوله :﴿وَاغْفِرْ لابِى إِنَّه كَانَ مِنَ الضَّآلِّينَ﴾ وقال الزمخشري :(فإن قلت) : كيف جاز له أن يستغفر لأبويه وكانا كافرين ؟ (قلت) : هو من تجويزات العقل، لا يعلم امتناع جوازه إلا بالتوقيف انتهى. وهو في ذلك موافق لأهل السنة، مخالف لمذهب الاعتزال. وقرأ الحسين بن علي، ومحمد، وزيد : ربنا على الخبر. وابن يعمر والزهري والنخعي : ولولديّ بغير ألف وبفتح اللام يعني : إسماعيل وإسحاق، وأنكر عاصم الجحدري هذه القراءة، وقال : إنّ في مصحف أبيَّ بن كعب : ولأبوي، وعن يحيى بن يعمر : ولولدي بضم الواو وسكون اللام، فاحتمل أنْ
٤٣٤
يكون جمع ولد كأسد في أسد، ويكون قد دعا لذريته، وأن يكون لغة في الولد. وقال الشاعر :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٢٩
فليت زياداً كان في بطن أمهوليت زياداً كان ولد حمار
كما قالوا : العدم والعدم. وقرأ ابن جبير : ولوالدي بإسكان الياء على الإفراد كقوله : واغفر لأبي، وقيام الحساب مجاز. عن وقوعه وثبوته كما يقال : قامت الحرب على ساق، أو على حذف مضاف أي : أهل الحساب كما قال :﴿يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَـالَمِينَ﴾.
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَـافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّـالِمُونَا إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الابْصَـارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُم وَأَفْـاِدَتُهُمْ هَوَآءٌ﴾ : الخطاب بقوله : ولا تحسبن، للسامع الذي يمكن منه حسبان مثل هذا لجهله بصفات الله، لا للرسول صلى الله عليه وسلّم، فإنه مستحيل ذلك في حقه. وفي هذه الآية وعيد عظيم للظالمين، وتسلية للمظلومين. وقرأ طلحة : ولا تحسب بغير نون التوكيد، وكذا فلا تحسب الله مخلف وعده. والمراد بالنهي عن حسبانه غافلاً الإيذان بأنه عالم بما يفعل الظالمون، لا يخفى عليه منه شيء، وأنه معاقبهم على قليله وكثيره على سبيل الوعيد والتهديد كقوله :﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ يريد الوعيد. ويجوز أن يراد : ولا تحسبنه، يعاملهم معاملة الغافل عما يعملون، ولكن معاملة الرقيب عليهم المحاسب على النقير والقطمير. وقرأ السلمي والحسن، والأعرج، والمفضل، عن عاصم وعباس بن الفضل، وهارون العتكي، ويونس بن حبيب، عن أبي عمر : ونؤخرهم بنون العظمة، والجمهور بالياء أي : يؤخرهم الله. مهطعين مسرعين، قاله : ابن جبير وقتادة. وذلك بذلة واستكانة كإسراع الأسير والخائف. وقال ابن عباس، وأبو الضحى : شديدي النظر من غير أنْ يطرقوا. وقال ابن زيد : غير رافعي رؤوسهم. وقال مجاهد : مد يمين النظر. وقال الأخفش : مقبلين للإصغاء، وأنشد :
بدجاة دارهم ولقد أراهم


الصفحة التالية
Icon