ولكن إبليس اختار الإباء والاستكبار فهلك، والله تعالى بريء من غيه ومن إرادته والرضا به انتهى. وهو على طريقة الاعتزال. والضمير في لهم عائد على غير مذكور، بل على ما يفهم من الكلام، وهو ذرية آدم. ولذلك قال في الآية الأخرى :﴿لَـاِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَةِ لاحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُا إِلا قَلِيلا﴾ والتزيين تحسين المعاصي لهم ووسوسته حتى يقعوا فيها في الأرض أي : في الدنيا التي هي دار الغرور لقوله تعالى :﴿أَخْلَدَ إِلَى الارْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ﴾ أو أراد أني أقدر على الاحتيال لآدم، والتزيين له الأكل من الشجرة وهو في السماء، فأنا على التزيين لأولاده أقدر. أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض، ولأرفعن رتبتي فيها أي : لأزينها في أعينهم، ولا حدثنهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها حتى يستحبوها على الآخرة ويطمئنوا إليها دونها، ونحوه : يجرح في عراقيبها نصلي قاله الزمخشري. وإلاّ عبادك استثناء القليل من الكثير، إذ المخلصون بالنسبة إلى الغاوين قليل، واستثناؤهم إبليس، لأنه علم أنّ تزيينه لا يؤثر فيهم، وفيه دليل على جلاله هذا الوصف، وأنه أفضل ما اتصف به الطائع.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٥٢
وقرأ الكوفيون، ونافع، والحسن، والأعرج : بفتح اللام، ومعناه إلا من أخلصته للطاعة أنت، فلا يؤثر فيه تزييني. وقرأ باقي السبعة والجمهور : بكسرها أي : إلا من أخلص العمل لله ولم يشرك فيه غيره. ولا رأءى به، والفاعل لقال الله أي : قال الله. والإشارة بهذا إلى ما تضمنه المخلصين من المصدر أي : الإخلاص الذي يكون في عبادي هو صراط مستقيم لا يسلكه أحد فيضل أو يزل، لأنّ من اصطفيته أو أخلص لي العمل لا سبيل لك عليه. وقيل : لما قسم إبليس ذرية آدم إلى غاو ومخلص قال تعالى : هذا أمر مصيره إليّ، ووصفه بالاستقامة، أي : هو حق، وصيرورتهم إلى هذين القسمين ليست لك. والعرب تقول : طريقك في هذا الأمر على فلان أي : إليه يصيرالنظر في أمرك. وقال الزمخشري : هذا طريق حق عليّ أن أراعيه، وهو أن يكون لك سلطان على عبادي، إلا من اختار اتباعك منهم لغوايته انتهى. فجعل هذا إشارة إلى انتفاء تزيينه وإغوائه. وكونه ليس له عليهم سلطان، فكأنه أخذ الإشارة إلى ما استثناه إبليس، وإلى ما قرره تعالى بقوله : إن عبادي. وتضمن كلامه مذهب المعتزلة. وقال صاحب اللوامح : أي : هذا صراط عهدة استقامته عليّ. وفي حفظه أي : حفظه عليّ، وهو مستقيم غير معوج. وقال الحسن : معنى عليّ إليَّ. وقيل : عليّ كأنه من مرّ عليه مرّ عليّ أي : على رضواني وكرامتي. وقرأ الضحاك، وابراهيم. وأبو رجاء، وابن سيرين، ومجاهد، وقتادة، وقيس بن عباد، وحميد، وعمرو بن ميمون، وعمارة بن أبي حفصة، وأبو شرف مولى كندة، ويعقوب : عليّ مستقيم أي : عال لارتفاع شأنه. وهذه القراءة تؤكد أنّ الإشارة إلى الإخلاص وهو أقرب إليه. والإضافة في قوله : إنّ عبادي، إضافة تشريف أي : أنّ المختصين بعبادتي، وعلى هذا لا يكون قوله : إلا من اتبعك، استثناء متصلاً، لأنّ من اتبعه لم يندرج في قوله : إنّ عبادي : وإنْ كان أريد بعبادي عموم الخلق فيكون : إلاّ من اتبعك استثناء من عموم، ويكون فيه دلالة على استثناء الأكثر، وبقاء المستثنى منه أقل، وهي مسألة اختلف فيها النحاة. فأجاز ذلك الكوفيون وتبعهم من أصحابنا الأستاذ أبو الحسن بن خروف، ودلائل ذلك مسطرة في كتب النحو. والذي يظهر أنّ إبليس لما استثنى العباد المخلصين كانت الصفة ملحوظة في قوله : إنّ عبادي أي : عبادي المخلصين الذين ذكرتهم ليس لك عليهم سلطان. ومن في الغاوين لبيان الجنس أي : الذين هم الغاوون. وقال الجبائي : هذه الآية تدل على بطلان قول من زعم أن الشيطان والجن يمكنهم صرع الناس وإزالة عقولهم كما تقول العامة، وربما نسبوا ذلك إلى السحرة. قال : وذلك خلاف ما نص الله تعالى عليه، ولموعدهم مكان وعد اجتماعهم والضمير للغاوين. وقال ابن عطية : وأجمعين تأكيد، وفيه معنى الحال انتهى.
٤٥٤
وهذا جنوح لمذهب من يزعم أنّ أجمعين تدل على اتحاد الوقت، والصحيح أنّ مدلوله مدلول كلهم.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٥٢