وغير ذلك انتهى. وقوله : ولكنْ أنّ مع الفعل يعني المضارع، وقوله : في أغلب أمرها ليس بجيد، بل تدل على المستقبل في جميع أمورها. وأما قوله : وقد تجيء إلى آخره، فلم يفهم ذلك من دلالة أنْ، وإنما ذلك من نسبة قيام السماء والأرض بأمر الله، لأنّ هذا لا يختص بالمستقبل دون الماضي في حقه تعالى. ونظيره ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدًا﴾ فكان تدل على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي، وهو تعالى متصف بهذا الوصف ماضياً وحالاً ومستقبلاً، وتقييد الفعل بالزمن لا يدل على نفيه عن غير ذلك الزمن. والذين هاجروا قال قتادة : نزلت في مهاجري أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلّم. وقال داود بن أبي هند : في أبي جندل بن سهيل بن عمرو. وعن ابن عباس : في صهيب، وبلال، وخباب بن الأرت، وأضرابهم عذبهم المشركون بمكة، فبوأهم الله المدينة. وعلى هذا الاختلاف في السبب يتنزل المراد بقوله : والذين هاجروا. قال ابن عطية : لما ذكر الله كفار مكة الذين أقسموا بأنّ الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور وهو الصحيح في سبب الآية، لأنّ هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزول الآية انتهى. والذين هاجروا، عموم في المهاجرين كائناً ما كانوا، فيشمل أولهم وآخرهم. وقرأ الجمهور : لنبوأنهم، والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي : تبوئة حسنة. وقيل : انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر، لأنّ معنى لنبوأنهم في الدنيا لنحسنن إليهم، فحسنة في معنى إحساناً. وقال أبو البقاء : حسنة مفعول ثان لنبوأنهم، لأنّ معناه لنعطينهم، ويجوز أن يكون صفة لمحذوف أي : دار حسنة انتهى. وقال الحسن، والشعبي، وقتادة : داراً حسنة وهي المدينة. وقيل : التقدير منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموا، وعلى العرب قاطبة، وعلى أهل المشرق والمغرب. وقال مجاهد : الرزق الحسن. وقال الضحاك : النصر على عدوهم. وقيل : ما استولوا عليه من فتوح البلاد وصار لهم فيها من الولايات. وقيل : ما بقي لهم فيها من الثناء، وما صار فيها لأولادهم من الشرف. وقيل : الحسنة كل شيء مستحسن ناله المهاجرون. وقرأ عليّ، وعبد الله، ونعيم بن ميسرة، والربيع بن خيثم : لنثوينهم بالثاء المثلثة، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من ثوى بالمكان أقام فيه، وانتصب حسنة على تقدير إثواة حسنة، أو على نزع الخافض أي : في حسنة، أي : دار حسنة، أو منزلة حسنة. ودل هذا الإخبار بالمؤكد بالقسم على عظيم محل الهجرة، لأنه بسببها ظهرت قوة الإسلام كما أنّ بنصرة الأنصار قويت شوكته. وفي الله دليل على إخلاص العمل لله، ومن هاجر لغير الله هجرته لما هاجر إليه. وفي الإخبار عن الذين بجملة القسم المحذوفة الدال عليها الجملة المقسم
٤٩٢
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٨٧
عليها دليل على صحة وقوع الجملة القسمية خبراً للمبتدأ، خلافاً لثعلب. وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوباً بفعل محذوف يدل عليه لنبوأنهم، وهو لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل. ولا يجوز زيداً لأضربن، فلا يجوز زيداً لأضربنه. وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاءه قال : خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أكثر، ولأجر الآخرة أي : ولأجر الدار الآخرة أكبر، أي : أكبر أنْ يعلمه أحد قبل مشاهدته كما قال : وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً وملكاً كبيراً. والضمير في يعلمون عائد على الكفار أي : لو كانوا يعلمون أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة لرغبوا في دينهم. وقيل : يعود على المؤمنين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم، والذين صبروا على تقديرهم الذين، أو أعني الذين صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، لا سيما حرم الله المحبوب لكل قلب مؤمن، فكيف لمن كان مسقط رأسه ؟ وعلى بذل الروح في ذات الله، واحتمال الغربة في دار لم ينشأ بها، وناس لم يألفهم أجانب حتى في النسب.