والظاهر أن السجود هنا عبارة عن الانقياد، وجريانها على ما أراد الله من ميلان تلك الظلال ودورانها كما يقال للمشير برأسه إلى الأرض على جهة الخضوع : ساجد. قال الزمخشري : سجداً حال من الظلال، وهم داخرون حال من الضمير في ظلاله، لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق الله من شيء له ظل. وجمع بالواو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء، أو لأن في جملة ذلك من يعقل فغلب، والمعنى : أنّ الظلال منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ والأجرام في أنفسها. ذاخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع انتهى. فغاير الزمخشري بين الحالين، جعل سجداً حالاً من الظلال، ووهم داخرون حالاً من الضمير في سجداً، وأن يكون حالاً ثانية من الظلال كما تقول : جاء زيد راكباً وهو ضاحك، فيجوز أن يكون وهو ضاحك حالاً من الضمير في راكباً، ويجوز أن يكون حالاً من زيد، وهذا الثاني عندي أظهر، والعامل في الحالين هو تتفيؤ، وعن متعلقة به، وقاله الحوفي. وقيل : في موضع الحال، وقاله أبو البقاء. وقيل : عن اسم أي : جانب اليمين، فيكون إذ ذاك منصوباً على الظرف. وأما ما أجازه الزمخشري من أن قوله : وهم داخرون، حال من الضمير في ظلاله، فعلى مذهب الجمهور لا يجوز، وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة، ومن ذهب إلى أنه إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزء جاز، وقد يخبر هنا ويقول : الظلال وإن لم تكن جزءاً من الأجرام فهي كالجزء، لأن وجودها ناشىء عن وجودها. وذهبت فرقة إلى أن السجود هنا حقيقة. قال الضحاك : إذا زالت الشمس سجد كل شيء قبل القبلة من نبت وشجر، ولذلك كان الصالحون يستحبون الصلاة في ذلك الوقت. وقال مجاهد : إنما تسجد الظلال دون الأشخاص، وعنه أيضاً إذا زالت الشمس سجد كل شيء. وقال الحسن : أما ظللك فيسجد لله، وأما أنت فلا تسجد له. وقيل : لما كانت الظلال ملصقة بالأرض واقعة عليها على هيئة الساجد وصفت بالسجود، وكون السجود يراد به الحقيقة وهو الوقوع على الأرض على سبيل العبادة وقصدها يبعد، إذ يستدعي ذلك الحياة والعلم والقصد بالعبادة. وخصّ الظل بالذكر لأنه سريع التغير، والتغير يقتضي مغيراً غيره ومدبراً له، ولما كان سجود الظلال في غاية الظهور بدىء به، ثم انتقل إلى سجود ما في السموات والأرض. ومن دابة : يجوز أن يكون بياناً لما في الظرفين، ويكون مَن في السموات خلق يدبون. ويجوز أن يكون بياناً لما في الأرض، ولهذا قال ابن عباس : يريد كل ما دب على الأرض. وعطف والملائكة على ما في السموات وما في الأرض، وهم مندرجون في عموم ما تشريفاً لهم وتكريماً، ويجوز أن يراد بهم الحفظة التي في الأرض، وبما في السموات ملائكتهنّ، فلم يدخلوا في العموم. وقيل : بين تعالى في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله، بين أنّ أشرف الموجودات وهم الملائكة، وأخسها وهي
٤٩٨
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٨٧
الدواب منقادة له تعالى، ودل ذلك على أن الجميع منقاد لله تعالى. وقيل : الدابة اسم لكل حيوان جسماني يتحرك ويدب، فلما ميز الله تعالى الملائكة عن الدابة، علمنا أنها ليست مما يدب، بل هي أرواح مختصة بحركة انتهى. وهو قول فلسفي. ولما كان بين المكلفين وغيرهم قدر مشترك في السجود وهو الانقياد لإرادة الله، جمع بينهما فيه وإن اختلفا في كيفية السجود.


الصفحة التالية
Icon