والله أنزل من السماء ماء قال أبو عبد الله الرازي : المقصود من القرآن أربعة : الإلهيات، والنبوات، والمعاد، والقدر، والأعظم منها الإلهيات فابتدأ في ذكر دلائلها بالأجرام الفلكية، ثم بالإنسان ثم بالحيوان، ثم بالنبات ثم بأحوال البحر والأرض، ثم عاد إلى تقدير الإلاهيات فبدأ بذكر الفلكيات انتهى ملخصاً. وقال ابن عطية : لما أمره بتبيين ما اختلف فيه قص العبر المؤدية إلى بيان أمر الربوبية، فبدأ بنعمة المطر التي هي أبين العبر، وهي ملاك الحياة، وهي في غاية الظهور، ولا يختلف فيها عاقل انتهى. ونقول : لما ذكر إنزال الكتاب للتبيين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد، ولذلك ختم بقوله : لقوم يؤمنون أي : يصدقون. والتصديق محله القلب، فكذا إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها. ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن، كما قال تعالى :﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ﴾ فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها، كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتاً بالجهل. وكذلك ختم بقوله : يسمعون هذا التشبيه المشار إليه، والمعنى : سماع إنصاف وتدبر، ولملاحظة هذا المعنى ـ والله أعلم ـ لم يختم بلقوم يبصرون، وإن كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد. وقال ابن عطية : وقوله يسمعون، يدل على ظهور هذا المعتبر فيه وتبيانه، لأنه لا يحتاج إلى نظر ولا تفكر، وإنما يحتاج البتة إلى أن يسمع القول فقط.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩٩
﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِى الانْعَـامِ لَعِبْرَةًا نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِى بُطُونِهِا مِنا بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآاِغًا لِّلشَّـارِبِينَ * وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالاعْنَـابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِى ذالِكَ لايَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِى مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِى مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِى سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنا بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُه فِيهِ شِفَآءٌ لِّلنَّاسِا إِنَّ﴾ : لما ذكر الله تعالى إحياء الأرض بعد موتها، ذكر ما ينشأ عن ما ينشأ عن المطر وهو حياة الأنعام التي هي مألوف العرب بما يتناوله من النبات الناشىء عن المطر، ونبه على العبرة العظيمة وهو خروج اللبن من بين فرث ودم. وقرأ ابن مسعود بخلاف، والحسن، وزيد بن علي، وابن عامر، وأبو بكر، ونافع، وأهل المدينة. نسقيكم هنا، وفي قد أفلح المؤمنون : بفتح النون مضارع سقى، وباقي السبعة بضمها مضارع أسقى، وتقدم الكلام في سقى وأسقى في قوله ﴿فَأَسْقَيْنَـاكُمُوهُ﴾ وقرأ أبو رجاء : يسقيكم بالياء مضمومة، والضمير عائد على الله أي : يسقيكم الله. قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون مسنداً إلى النعم، وذكر لأنّ النعم مما يذكر ويؤنث ومعناه : وأنّ لكم في الأنعام نعماً يسقيكم أي : يجعل لكم سقياً انتهى. وقرأت فرقة : بالتاء مفتوحة منهم أبو جعفر. قال ابن عطية : وهي ضعيفة انتهى. وضعفها عنده ـ والله أعلم ـ من حيث أنث في تسقيكم، وذكر في قوله مما في بطونه، ولا ضعف في ذلك من هذه الجهة، لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين، وأعاد الضمير مذكراً مراعاة للجنس، لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكراً كقولهم : هو أحسن الفتيان وأنبله، لأنه يصح هو أحسن فتى، وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه، إنما يقتصر فيه على ما قالته العرب. وقيل : جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة، ومعاملة الجمع، فيعود الضمير عليه مفرداً. كقوله :
مثل الفراخ نبقت حواصله
وقيل : أفرد على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كما قال :
٥٠٨
فيها خطوط من سواد وبلقكأنه في الجلد توليع البهق
فقال : كأنه وقدر بكان المذكور. قال الكسائي : أي في بطون ما ذكرنا. قال المبرد : وهذا سائغ في القرآن قال تعالى :﴿إِنَّ هَـاذِهِا تَذْكِرَةٌ﴾ ﴿فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ﴾ أي ذكر هذا الشيء. وقال :﴿فَلَمَّا رَءَا الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّى﴾ أي هذا الشيء الطالع. ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازى، لا يجوز جاريتك ذهب. وقالت فرقة : الضمير عائد على البعض، إذ الذكور لا ألبان لها فكأنّ العبرة إنما هي في بعض الأنعام. وقال الزمخشري : ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة على أفعال كقولهم : ثواب أكياش، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً، وأما في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع، ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان : أحدهما : أن يكون تكسير نعم كالأجبال في جبل، وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمع كنعم، فإذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٤٩٩