ثم ذكر تعالى أنه له غيب السموات والأرض، وهو ما غاب عن العباد وخفي فيهما عنهم علمه. والظاهر اتصاله بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ أخبر باستئثاره بعلم غيب السموات والأرض، بكمال قدرته على الإتيان بالساعة التي تنكرونها في لمحة البصر أو أقرب، والمعنى بهذا الإخبار : أنّ الآلهة التي تعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان للإله وهما : العلم المحيط بالمغيبات، والقدرة البالغة التامّة. ومن ذكر أنّ قوله : ومن يأمر بالعدل هو الله تعالى، ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأنّ من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هو الكامل في العلم والقدرة، فبين ذلك بهذه الجملة. قيل : والغيب هنا ما لا يدرك بالحس، ولا يفهم بالعقل. وقال المفضل : ما غاب عن الخلق هو في قبضته لا يعزب عنه. وقيل : هو ما في قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَه عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ وقال الزمخشري : أو أراد بغيب السموات والأرض يوم القيامة، على أن علمه غائب عن أهل السموات والأرض لم يطلع عليه أحد منهم. قيل : لما كانت الساعة آتية ولا بد، جعلت من القرب كلمح البصر. وقال الزجاج : لم
٥٢٠
يرد أنّ الساعة تأتي في لمح البصر، وإنما وصف سرعة القدرة على الإتيان بها أي : يقول للشيء كن فيكون. وقيل : هذا تمثيل للقرب كما تقول : ما السنة إلا لحظة. وقال الزمخشري : هو عند الله وإن تراخى، كما يقولون أنتم في الشيء التي تستقربونه : كلمح البصر، أو هو أقرب إذا بالغتم في استقرابه ونحوه قوله :﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ﴾ ﴿وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُا﴾ ﴿وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ﴾ أي هو عنده دان، وهو عندكم بعيد. وقيل : المعنى أنّ إقامة الساعة وإماتة الأحياء، وإحياء الأموات من الأولين والآخرين، يكون في أقرب وقت أوحاه. أنّ الله على كل شيء قدير، فهو يقدر على أنْ يقيم الساعة، ويبعث الخلق، لأنه بعض المقدورات. وقال ابن عطية : والمعنى على ما قال قتادة وغيره، وما تكون الساعة وإقامتها في قدرة الله تعالى إلا أن يقول لها : كن فلو اتفق أن يقف على ذلك شخص من البشر لكانت من السرعة بحيث يشك هل هي كلمح البصر ؟ أو هي أقرب من ذلك ؟ فأو على هذا على بابها في الشك. وقيل : هي للتخيير انتهى. والشك والتخيير بعيدان، لأنّ هذا إخبار من الله تعالى عن أمر الساعة، فالشك مستحيل عليه. ولأنّ التخيير إنما يكون في المحظورات كقولهم : خذ من مالي ديناراً أو درهماً، أو في التكليفات كآية الكفارات :
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٥١٧
﴿وَالَّذِينَ يُظَـاهِرُونَ﴾ وأو هنا للإبهام على المخاطب كقوله :﴿وَأَرْسَلْنَـاهُ إِلَى مِا ئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ وقوله :﴿أَتَـاهَآ أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا﴾ وهو تعالى قد علم عددهم، ومتى يأتيها أمره، كما علم أمر الساعة، لكنه أبهم على المخاطب. وكون أو هنا للإبهام ذكره الزجاج هنا. وقال القاض : هذا لا يصح، لأنّ إقامة الساعة ليست حال تكليف حتى يقال : إنه تعالى يأتي بها في زمان يعني القاضي فيكون الإبهام على المخاطب في ذلك الزمان، وليس زمان تكليف. والذي نقوله : إن الإبهام وقع وقت الخطاب المتقدم على أمر الساعة، لا وقت الإتيان بها. وليس من شرط الإبهام على المخاطب في الإخبار عن شيء اتحاد زمان الإخبار وزمان وقوع ذلك الشيء، ألا ترى في قوله تعالى :﴿وَأَرْسَلْنَـاهُ إِلَى مِا ئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ كيف تأمر زمان الإخبار عن زمان وقوع ذلك الإرسال، ووجودهم مائة ألف أو يزيدون. وقال أبو عبد الله الرازي : لمح البصر انتقال الجسم بالطرف من أعلى الحدقة، وهي مؤلفة من أجزاء وتلك الأجزاء كثيرة، والزمان الذي يحصل فيه للمح مركب من آناء متعاقبة، والله تعالى قادر على إقامة القيامة في آن واحد من تلك الآناء، فلذلك قال :﴿أَوْ هُوَ أَقْرَبُ﴾ ولما كان أسرع الأحوال والحوادث في عقولنا هو لمح البصر ذكره، ثم قال : أو هو أقرب تنبيهاً على ما ذكرناه، وليس المراد طريقة الشك، والمراد بل هو أقرب انتهى. وفيه بعض تلخيص. وما ذكره من أنّ أو بمعنى بل، هو قول الفراء، ولا يصح لأنّ الإضراب على قسمين كلاهما لا يصح هنا. أما أحدهما : فإن يكون إبطالاً للإسناد السابق، وأنه ليس هو المراد، وها مستحيل هنا، لأنه يؤول إلى إسناد غير مطابق. والثاني : أن يكون انتقالاً من شيء إلى شيء من غير إبطال لذلك الشيء السابق، وهذا مستحيل هنا للتنافي الذي بين الإخبار بكونه مثل لمح البصر في السرعة، والإخبار بالأقربية، فلا يمكن صدقهما معاً. وقال صاحب الغيان : وهذا وإن كان يعتبر إدراكه حقيقة، إلا أن المقصود المبالغة على مذهب العرب وأرباب النظم. وما أحسن قول الأبله الشاعر في المعنى :
قال له البرق وقالت له الريحجميعاً وهما ما هما
أأنت تجري معنا قال إننشطت أضحكتكما منكما
أنا ارتداد الطرف قد فتهإلى المدى سبقاً فمن أنتما


الصفحة التالية
Icon